خسائر تركيا ماديا ومعنويا بسبب العنصرية

السياحة أكبر خاسر من الممارسات العنصرية

 

لا تصل العنصرية في تركيا ضد الأجانب إلى مستوى الظاهرة العامة، لكنها في طريقها إلى ذلك إذا لم تواجهها السلطة والمجتمع بحزم، فلا يكاد يمر أسبوع دون وقوع حادثة يكون ضحيتها أحد أو بعض الأجانب وخصوصًا العرب، اختلط الحابل بالنابل فلم تقتصر الاعتداءات على المقيمين الأجانب بطريقة شرعية في تركيا الذين يتهمهم العنصريون بالتسبب في الغلاء والبطالة إلخ، ولكنها طالت سياحًا عربًا وعجمًا، وهنا يصبح هؤلاء العنصريون كمن يطلق الرصاص على قدميه، وكمن يفجرون أنفسهم في مجتمعهم وناسهم.

حادث مقتل المواطن المغربي في إسطنبول قلب تركيا النابض، أو الشاب السوري متأثرًا بطعنات بعض العنصريين في إزمير أحد المعاقل العلمانية، أو السوري الآخر في أضنة، وحادث طعن السائح الكويتي الأخير في مدينة طرابزون (درة السياحة التركية في الشمال) هي نماذج صارخة للعنصرية المتنامية. تحركت السلطات الأمنية فقبضت على الجناة في كل الحوادث وأحالتهم إلى القضاء، وقدّمت الاعتذارات للضحايا وأسرهم، لكن ذلك لم يكن كافيًا لتعويض الضحايا، أو إزالة مخاوف غيرهم، ولا كافيًا لردع العنصريين الذين يعُدون جرائمهم بطولات وطنية يتبادلون صورها عبر حساباتهم وهواتفهم.

ضربة للاقتصاد التركي

سموم العنصرية لا تطال الأجانب بل إنها امتدت إلى نساء تركيات محجبات، لكن الأهم أنها سهام موجَّهة إلى اقتصاد تركيا الذي يقوم في جزء كبير منه على السياحة والاستثمارات الخارجية وخصوصًا الخليجية. ومع تكرار الحوادث العنصرية ضد مقيمين عرب وسياح خليجيين، تصاعدت دعوات لمقاطعة السياحة في تركيا، هنا نتذكر أن طرابزون تعتمد بشكل أساسي على السياح العرب وخاصة الخليجيين الذين يمتلكون فيها بيوتًا وشاليهات ومطاعم ومحال وفنادق، وقد أدرك القائمون على السياحة فيها خطورة الجريمة التي وقعت ضد سائح كويتي، فتنادوا لاجتماع عاجل حاولوا خلاله التبرؤ من تلك الجريمة التي وصفوها بالفردية وأنها لا تُمثل أهل طرابزون، وأكدوا بذلهم كل جهودهم لراحة السياح وتوفير الأمن والاطمئنان لهم.

للسياحة نصيب الأسد في الاقتصاد التركي، ولنا أن نعرف أن دخل السياحة بلغ 46.28 مليار دولار العام الماضي، بزيادة 53.4% عن العام السابق، رغم الحرب الروسية الأوكرانية، وقد حلت تركيا في تصنيف صادر عن منظمة السياحة العالمية (UNWTO) في المرتبة الرابعة عالميًّا من حيث عدد السياح الزائرين للبلاد، متقدمة على إيطاليا والولايات المتحدة.

في العقد الأخير أصبحت تركيا هي الوجهة المفضلة للسياح العرب سواء السياحة الترفيهية التي قدّمت لهم شكلًا محافظًا يتناسب مع قيمهم الدينية أو السياحة العلاجية أو التعليمية إلخ، وكشف اتحاد أصحاب الفنادق في تركيا عن ارتفاع نسبة السياح العرب في الربع الأول للعام الجاري 13% مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، وهذه النسبة كانت مرشحة للمزيد من الارتفاع لكن الحوادث العنصرية الأخيرة ستنعكس سلبًا عليها.

قبل شهرين قام الرئيس أردوغان بجولة خليجية شملت السعودية وقطر والإمارات، وأبرم خلالها اتفاقات استثمارية بـ50 مليار دولار في مجالات اقتصادية وصناعية ودفاعية متنوعة، وهي استثمارات قدّمت إكسيرًا جديدًا للاقتصاد التركي الذي يعاني صعوبات جمة دفعت الليرة إلى التراجع المستمر حتى الآن.

طعنات ضد الرئيس وحزبه

الاعتداءات العنصرية ضد العرب تحديدًا إلى جانب انطلاقها من روح عنصرية بغيضة مشحونة بأكاذيب تاريخية، وأوهام عن مسؤولية اللاجئين عن تردي الوضع الاقتصادي، فإنها تُمثل أيضًا طعنات ضد الرئيس أردوغان والحزب الحاكم، بزعم أن هؤلاء العرب سواء كانوا مقيمين أو مجنسين أو مستثمرين أو سائحين هم من الداعمين للرئيس والحزب سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولذا فإن تلك الاعتداءات تستهدف مصدر هذا الدعم.

الحكومة التركية أسهمت بطريقة غير مباشرة في إذكاء هذه الروح العنصرية عبر حملتها الكبرى ضد الهجرة غير النظامية، ورغم أن تلك الحملات حق مشروع لها فإن بعض المُنفذين من رجال الشرطة تعاملوا برعونة، وبدوا وكأنهم كانوا ينتظرون هذه التعليمات ليمارسوا تلك الرعونة ضد المخالفين وأحيانًا غير المخالفين، وهو ما يشجع العنصريين عمومًا على ممارسة المزيد من الجرائم.

إلى جانب الخسائر الاقتصادية، فإن تركيا تخسر كثيرًا من رصيدها المعنوي لدى الشعوب العربية والإسلامية، وهو الرصيد الذي بنته على مدار سنوات طويلة، ظهرت خلاله تركيا بمظهر الداعم لتطلعات تلك الشعوب، المساند لقضاياها، الرافع لمطالبها في المحافل الدولية حتى حين تغيب عن هذا الواجب حكوماتها، تلك الشعوب التي خفقت قلوبها مع كل خطر مرت به تركيا سواء في أحداث سياسية وانتخابية، أو في حوادث طبيعية مثل الزلازل والسيول، والتي تعُد الرئيس أردوغان قائدًا حقيقيًّا للأمة الإسلامية بلا منازع.

صحيح أن السلطات الأمنية والعدلية التركية اهتمت أخيرًا بمواجهة هذه الظاهرة، وألقت القبض على العديد من العنصريين، المتهمين بقتل أو طعن مهاجرين، أو تدمير محال سورية، كما لاحقت جماعة عنصرية (حركة المدافعة) وقبضت على بعض أعضائها بعد نشرهم بيانًا تحريضيًّا ضد المهاجرين، ولكن هذه التحركات لم تنجح حتى الآن في وقف الحوادث العنصرية.

تحتاج مواجهة العنصرية إلى إجراءات أكثر حزمًا، حتى لو تطلب الأمر تعديلات تشريعية تردع هؤلاء المعتدين، وتمنع وقوع المزيد من الاعتداءات، ولكن يبقى التحرك الشعبي هو الأهم في مواجهة هؤلاء العنصريين الذين يجدون الآن حاضنة شعبية ولو قليلة، ويوم يفتقدون أي حاضنة شعبية فإنهم سيتوقفون عن جرائمهم. ولحسن الحظ، فإن المجتمع التركي بدأ ينتبه لخطورة هذه الظاهرة، فخرجت قبل أيام مظاهرة ضد العنصرية والكراهية في منطقة الفاتح، رفع المتظاهرون خلالها شعارات مثل “العنصريون المعجبون بالغرب المعادون لأمة الإسلام عار على هذا البلد”، و”المهاجرون ليسوا أجانب بل إخواننا”، والمأمول أن تتسع هذه الروح في ربوع إسطنبول وكل ربوع تركيا، فهي الكفيلة بوأد العنصرية.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان