محاكمة الكلمة

يحيى حسين عبد الهادي

 

لا يزال العرض مستمرًّا داخل أروقة المحاكم منذ فجر التاريخ إلى غدنا القادم، فصباح غد يقف المهندس يحيى حسين عبد الهادي أمام محاكم أمن الدولة ليحاكَم على كلمته التي يقولها وينشرها عبر صفحته على فيسبوك، فالرجل لا يجد منصة يكتب عليها داخل الوطن أو خارجه، بل إنه يستشعر حرجًا أن يطلب من أصدقائه نشر ما يكتبه خوفًا عليهم من التضييق الأمني أو اتهامهم بمشاركته الاتهامات الموجَّهة إليه (خلق حالة من الزخم الثوري تدفع المواطنين إلى التظاهر، وقطع الطرق، تعطيل  المنشآت، نشر الرعب بين المواطنين، وتهديد الأمن القومي للبلاد).

هذه هي قائمة اتهامات يحيى حسين من خلال نشره ثلاثة مقالات على وسائل التواصل، التي يصدر فيها الحكم غدًا بعد ثلاث جلسات عُقدت لمحاكمته، والحمد لله أنه لم يعد إلى السجن مرة أخرى، بعد خروجه منه عقب ثلاث سنوات ونصف قضاها بداخله بالتهم نفسها مضافًا إليها الانضمام لجماعة محظورة لم تحدَّد، كما لم يحدَّد شركاؤه في قضية المقالات الثلاثة حسب أوراق القضية.

الكلمة زلزلة الطغاة

أرّقت الكلمات السلطان والحاكم، الإمبراطور والفرعون، ويتوقف التاريخ كثيرًا أمام محاكمات أصحاب الكلمات، فمنذ صرخ الفلاح الفصيح في برديته الشهيرة بالشكوى وحتى الآن، يتحسس كل المستبدين من الكلمة بعدما وعوا قيمتها وقدرتها على زلزلة عروشهم، وعقدوا المحاكمات لأصحابها، لم يسمحوا لهم بنشرها على العامة ممن يتصورون عبوديتهم لهم، حوكم الشعراء على الكلمة وتم حبس من يستمر فيها رافضًا المساومات، وأغدقوا على من استسلم لهم مكاسب ونفوذًا.

في روما القديمة والدولة الرومانية، تم محاكمة الفلاسفة والحكماء، فهم يسعون للفكر والتغيير، نصبوا المشانق في ميادين العواصم ليكونوا عبرة للعامة من أبناء الشعب، فلا يتكلمون، بل إنهم في بعض الأحيان جعلوا منهم شهودًا على المحاكمة ومشاركين فيها، يصف صلاح عبد الصبور في مسرحيته (مأساة الحلاج) بعضًا من تلك المشاركة عبر التاريخ:

صفونا صفًّا صفًّا

الأجهر صوتًا والأطول

وضعوه في الصف الأول

ذو الصوت الخافت والمتواني

وضعوه في الصف الثاني

أعطوا كل منا دينارًا من ذهب قاني

برّاقًا لم تلمسه يد من قبل

قالوا: صيحوا زنديق كافر

صحنا زنديق كافر

المشهد السابق ليس حديثًا بل قديم متكرر، فالخروج على المألوف والمعتاد قضية تؤرق السلطان والسادة دائمًا، وما كلمات المفكرين والفلاسفة والشعراء والكتاب سوى خروج من الواقع إلى الحلم هكذا، حتى الأنبياء من إبراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد، عليهم جميعًا السلام، والكلمة الأولى لنبينا الكريم ﷺ كانت {اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1).

حوكم الأئمة والفقهاء في عصور الأمة الإسلامية على الفكر والتفكير والتدبر، تلك الأوامر الموجودة في القرآن الكريم، ما من فقيه حاول أن يفكر إلا قابله الخليفة بالمحاكمة، ستجد المثال الأوضح على ذلك في الإمام الشافعي، ذو النون المصري، الليث بن سعد، وغيرهم كثيرون في عصور الدولة الإسلامية.

في العصور العربية الحديثة، ستجد الكثيرين من المفكرين والأدباء والشعراء والسياسيين الذين حوكموا بسبب الكلمات، الكلمات فقط، من العراق إلى مصر، ومن اليمن إلى سوريا، منهم من دخل السجن، ومنهم من فر بكلماته إلى بلدان أخرى.

الأسبوع الماضي، كانت ذكرى اغتيال رسام الكاريكاتير رمز القضية الفلسطينية ناجي العلي، وناجي الخارج من فلسطين إلى لبنان ومنها إلى الكويت ثم إلى لندن حاملًا قلمه وريشته، لم تحتمله أي أرض عربية، وعندما ذهب إلى بلاد الغرب اغتالوه، وأصابع الاتهام حتى الآن تشير إلى الموساد الإسرائيلي وأطراف عربية. وهكذا، يمكننا أن نعدد في النصف الثاني من القرن العشرين عشرات من المفكرين والكتاب الذين زاروا زنازين السلطة بتهمة الكلمة.

يحيى حسين وسنوات القهر للكلمة

كانت الآمال أكبر من واقعنا قبل العشرية المصرية الماضية، ولم يخطر لنا أن كلماتنا ستصبح سيفًا على رقابنا، فنحاكَم بسببها أو نُسجن أو نهاجر فارين بها، الآلاف من المصريين داخل السجون التي بُنيت ـولا تزال تبنى- لأنهم قالوا كلمتهم أو أذاعوها، ونُشرت على صفحات قليلة الانتشار أو واسعة، لا فرق ما دمت تقول الحقيقة، وتسعى إلى الحلم بالعدل والمساواة، لا مجال للحصر ولا مساحة، وحين قالوا لنا حوارًا وطنيًّا لخروج المسجونين بالكلمة، أخرجوا 1600 سجين، ودخل مكانهم 6000 آخرون.

في محاكمة الغد، يقف الرجل ذو الـ70 عامًا شامخًا، ليس الوحيد الذي يبلغ هذا العمر ويحاكَم أو يُسجن بسبب كلمته، فهناك الكثيرون، لا يجد المناضل النبيل عندما يصل إلى هذا العمر بعد رحلة طويلة مجالًا للتراجع أو التنازل، فيقول:

عندما يُوضع السيف على رقبتك كي لا تنطق بكلمة حق، فأمامك موقف من اثنين: إما أن تصمت مضطرًا لشراء عُمْرٍ قد يمنحك القدرة مستقبلًا، أو تصرخ بها وتدفع ثمنها.. هي فرض كفاية لا بدَّ أن يقوم به بعضُنا.. وكلما تعرَّضتُ للاختيار بين الموقفين، طَنَّ في أذنَيَّ السؤال الشكسبيري “إن لم يكن أنا، فَمَنْ؟ وَإِنْ لم يكن الآن، فمتى؟”.. فأُجيبُ “ومَنْ أَوْلَى بها من شيخ على مشارف السبعين يريد أن يلقى اللّه صادقًا؟”.

هكذا يعطي الرجل النبيل المَثل للجميع “إن لم أكن أنا، فمن؟”، وهو صاحب مشوار طويل في مكافحة الفساد، فما أسهل لرجل مثله كان عميدًا مهندسًا في القوات المسلحة المصرية أن يحتفظ بمناصبه ومزاياه.

إنه ابن التقاليد العريقة لتلك المؤسسة المنوط بها حماية الأوطان، ابن جيل لم يعرف التجارة ولا “البيزنس”، بل عرف القتال على الجبهات المصرية، كان يمكن للرجل أن يستمر رئيس مجلس إدارة شركة كبرى مثل عمر أفندي، أو مديرًا لمركز إعداد القادة.

لكنه اختار كلمة الحق، والجهاد في وجه سلاطين جائرين، لم يركن إلى وظيفة مرموقة، أو سلطة زائلة. “لا سيفُكَ يُثنيني، ولا ذهبُك يُغريني.. وبعد أن استودعتُ اللّه أسرتي ونفسي، ليس عندي ما أخاف عليه، وليس عندك ما أرغب فيه” تلك الكلمة التي يرددها يحيى حسين عبد الهادي، وهو يمضي إلى المحاكمة غدًا بتهمة الكلمات، في عصر يشهد أكبر محاكمة للكلمة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان