“جروب مطبخنا” سقطة حقوقية وأخلاقية جديدة

ليس سرًّا أن الكثير من الأشخاص أُدخلوا في السجون المصرية بتهم تتعلق بتمويل الإرهاب، وتمويل جماعات محظورة، وتمويل جماعات أسست على خلاف القانون، وما شابه ذلك من قضايا شغلت المحاكم بدرجاتها المختلفة سنوات طويلة ولا تزال، وليس سرًّا أيضًا أنها في معظمها قضايا مثيرة للريبة تتعلق أساسًا بمساعدة أبناء معتقلين لا يستطيعون سداد المصروفات المدرسية، أو أسر سجناء لا يستطيعون مواجهة أعباء الحياة، أو غير ذلك من أوجه التكافل الاجتماعي.
لكن القضية المطروحة على الساحة أخيرًا بعنوان “جروب مطبخنا” تتعلق بفتيات من أُسر معتقلين يتعاونّ على إعداد الطعام لذويهن بالسجون وإرساله إليهم بالتناوب، في التوقيتات المسموح فيها بذلك، ذلك أن معظم المساجين يحق لهم استقبال طعام فيما يعرف بـ”الطبلية”، أي بلا زيارة، وهي تسليم الأهل الطعام على بوابة السجن دون رؤية السجين، وبالتالي فلا حاجة إلى ذهاب أهالي جميع السجناء دفعة واحدة إلى السجون، وما يرافق ذلك من معاناة لا يمكن تخيّلها.
تواصلتُ مع أحد المحامين الحقوقيين للوقوف على مدى قانونية أو عدم قانونية مساعدة أسرة فقدت عائلها، سواء كان سجينًا أو متغيبًا أو متوفيًا أو أيًّا كان، ومدى قانونية أو عدم قانونية إعداد طعام لهذا السجين أو ذاك من أسرة أخرى غير أسرته، إذا كانت أسرته لا تستطيع ذلك، أو أن ظروفها لسبب أو لآخر تمنعها من الذهاب إلى السجن في الموعد المحدد لتوصيل الطعام، فكانت الإجابة: أنه لا يوجد في القانون المصري، ولا في أي قانون آخر في العالم ما يمنع مساعدة الناس بعضهم لبعض، سواء كانت أسر فقراء، أو سجناء، أو معتقلين، أو أيًّا كان، كما لا يوجد أيضاً في أيّ قانون بالعالم ما يمنع مساعدة سجين بالطعام، خصوصًا إذا كان طعام السجن كما هو في حالتنا “لا يؤدي الغرض”، وهو التعبير المهذب في هذا الصدد.
في ذمة الدولة
كنت أتمنى أن تكون أسرة السجين أو المعتقل في رعاية وذمة الدولة، بمعنى أن تتم إعالة هذه الأسرة من خلال وزارة التضامن أو الشؤون الاجتماعية أو غيرهما؛ ذلك أن البديل هو الانفلات، إما نحو التشرد والتسوّل، وإما باتجاه الانحراف، فما بالنا ونحن نتحدث الآن عن عشرات آلاف الأسر، ذلك أن عدد السجناء السياسيين في مصر حاليًّا ربما هو العدد الأكبر في العالم على الإطلاق.
بالفعل تؤكد كل الشواهد أن الكثير من هذه الأسر لا تستطيع مواجهة أعباء الحياة، لا بتوفير قوت اليوم، ولا بالالتزامات الدراسية، ولا غير ذلك من متطلبات علاج أو كساء وما شابه ذلك، وبالتالي كان الشارع هو الملاذ الوحيد للكثير من هؤلاء، أطفالًا ونساءً وشيوخًا، خصوصًا إذا كنا نتحدث عن شظف الحياة في الدولة المصرية بشكل عام، فما بالنا بالأسرة التي أصبحت بلا عائل لسبب أو لآخر.
ولأن الأمر على قدر كبير من الحساسية، بل والخطورة، نتيجة الخوف من الاصطدام بالأجهزة الأمنية، فإن المراكز البحثية قد غلت يدها عن البحث في هذه القضية وغيرها من القضايا المشابهة، ذلك أن النتائج سوف تكون كارثية، لأن النظام بدلًا من أن يعلن عجزه عن التعامل مع مثل هذه الأزمات، ويطالب المواطنين والجمعيات الخيرية على أقل تقدير بالمشاركة في إيجاد حل، راح يطارد من يسهمون في حلها نيابة عن الدولة.
أعتقد أنه يتحتم على النظام بشكل عام إعادة النظر في مثل هذه القضايا، واعتبار أن أهل السجين أو المعتقل مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى، لأن الدولة بالتأكيد لن تسعد بمشاهدة مزيد من المتسولين والمشردين في الشوارع، ولن تستفيد من وجود مزيد من المجرمين والمنحرفين في الأماكن العامة والخاصة، أو حتى مزيد من المرضى الذين لا تسعفهم ظروفهم الاجتماعية والمادية بالعلاج.
يجب أن نعترف بأنه في غياب إعلام حرّ، وفي غياب برلمان فاعل، وفي عالم مشحون بالخوف، يصبح من الصعب طرح مثل القضايا المهمة للمناقشة والبحث بالشكل الذي يصبّ في مصلحة الدولة، وهو ما جعل من مثل هذه الكوارث خطًّا أحمر لا يقبل التداول، ولو على نطاقات ضيقة، في مجالس حقوق الإنسان، أو ما يسمى الحوارات الوطنية، وغيرها من المنتديات، على الرغم مما تشكله من أزمات تتدحرج مع الوقت ككرة الثلج، لتلقي بظلالها على جميع ميادين الحياة تقريبًا، من فقر، ومرض، وطفولة، وأمومة، وتشرّد، وتسوّل، وجريمة، وتصنيف، واستقطاب، وثأر، وحقد، وإرهاب، وجهل، وهو الأمر الذي ينسف بكل بساطة كل جهود التنمية والتطور في أي مجتمع.
لنكفّ الأذى
ربما لا يعلم البعض أن عشرات الجمعيات الخيرية قد أغلقت أبوابها خلال السنوات العشر الأخيرة، إما بقرارات رسمية، وإما لافتقارها إلى متبرعين ومساهمين لأسباب مختلفة، كما أن هناك مئات من الجمعيات لم تعد تستطيع الوفاء بالتزاماتها المعتادة، وهو ما يعني أن هناك آلافًا وربما عشرات الآلاف من الأسر قد فقدت الدعم الشهري الذي كانت تحصل عليه على مدى سنوات سابقة، وإذا أضفنا إلى هذه وتلك ما نحن بصدده من أسر المعتقلين، فنحن أمام أخطر قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار بين لحظة وأخرى، وهو ما يجعلنا -نحن أيضًا- نخاطر بطرح هذه القضية أملًا في تدارك الأمر قبل فوات الأوان.
لنكُفّ الأذى عمن يتطوعون بفعل الخير، بل ندعم من يريد أن يساعد، ونشجع من يريد أن يتصدق، ونصفق لمن يريد أن يُزكي، ما دام كل ذلك سوف يصب في المصارف الثمانية المحددة بنص القرآن الكريم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة: 60)، وذلك دون النظر إلى أيديولوجية هذا الفقير أو ذلك المسكين، ودون البحث في مدى تأييده للنظام السياسي أو عدمه؛ ذلك أن حق الحياة مكفول للجميع، شرعًا وقانونًا، ديانات وطوائف وأعراقًا، وما دون ذلك يضعنا أمام أزمة قانونية وأخلاقية لا يغفرها أبدًا الضمير الإنساني، حتى وإن استطعنا خداع القانون أو تواطأنا معه.