الحب في زمن “المساكنة”

 

في أي تعريف يُعتد به، لم يأتِ اصطلاح المساكنة مرادفًا للزواج، أو تعويضًا عنه، أو حتى قريبًا منه، وفي أي تعريف للزواج، دينيًا كان أو مدنيًا، ليس للمساكنة، ثمة وجود.

بل إن المساكنة تُطرح دائمًا بوصفها نقيض الزواج.

المساكنة فوضى، والزواج نظام.

المساكنة بربرية، والزواج تحضُّر.

المساكنة خروج عن القانون، أو هي الـ”لا قانون”، والزواج التزام بروح القانون، قبل نصوصه.

وفق توصيف الأمم المتحدة، الأكثر شيوعًا، فإن المساكنة هي اتفاق شريكين، على الإقامة معًا بغير زواج، واستخدام مصطلح: “بغير زواج”، يعني حتمًا انتفاءه من الأصل.

كل ما في الأمر، أن ذكرًا وأنثى اتفقا على أن يؤسسا عِشْرةً، فيقيما تحت سقف واحد، بعض وقت، ومن الوارد أن تنتهي “المُعاشرة”، لمجرد أن أحدهما استيقظ معكَّر المزاج، فحزم حقائبه ورحل من دون إنذار.

في بلاد الفرنجة

الدراسات السوسيولوجية، التي تطرقت إلى “الظاهرة”، ارتأت أن معظم الذين اختبروها، إنما نشدوا تلبية الرغبة الجنسية بغير التزام، ماديًا كان أو أخلاقيًا، فضلًا عن السعي إلى تشاطر الأعباء الاقتصادية، وهي دراسات أجريت بالمناسبة، في بلاد “الفرنجة”، التي يتخذها “المتأمركون العرب”، و”المتفرنسون العرب” مثلًا أعلى.

هذه بوهيمية فظة، ذلك أن الاتفاق أو التوافق على الاستمتاع الجنسي، بين رجل وامرأة، يرمي بالمآرب الأخلاقية في أتون الشهوة، ويتدحرج بالسمو الإنساني إلى هاوية الغزيرة، وإذا قلنا بتأييدها، فإننا نتدنى حتى نغدو كائنات لا تقوى عقولها، على تقليم مخالب رغباتها، مثل “كلاب السكك وقططها“.

وهكذا.. فإن إشهار أن فلانًا “يُساكن” فلانة، ليس يعني إلا أنه يضاجعها لفترة ما قد تطول وقد تقصر، وربما يحدث في مصادفة نادرة أن يقترنا بالزواج، أي الارتقاء بالعلاقة، وضبطها بضوابط مُرضية لطرفيها، وبما يحقق لهما القدرة على الاستمرار، ويُلزمهما في الآن ذاته، الإطار القانوني والشرعي، وكذلك الإطار الاجتماعي الأكثر احترامًا، فإذا كانت المساكنة تفي بالغرض، أو تحقق ما يؤديه “الميثاق الغليظ” فلماذا قد يتزوج المتساكنان؟

الثابت أن الأزهر الشريف بما له من قيمة معنوية، رغم ما عليه من مآخذ، ورغم تشكيك كارهيه أيضًا، قرر عبر لجنة الإفتاء أن المساكنة زنا صريح، وعليه فإن شرط الإشهار الذي يدَّعي مؤيدون، أنه يجعلها زيجة شرعية، وهو ادعاء يفتقر إلى الاستبصار بألف باء فقه الزواج.

الإشهار أشبه ما يكون بتوقيع مدير، آليًا، على قرارات ما، ومن دونه تتوقف عملية تنفيذها، رغم أن دوره في إنجازها مثل عدمه، ولو لم تكن هناك لجان واجتماعات ودراسات جدوى، وما نحو ذلك من ترتيبات، لما أخرج ذاك المدير قلمه المرصع من درج مكتبه.

ثمة اشتراطات قبل الإشهار، منها مثلًا أن يستطيع الرجل الباءة، فيتحمل أعباءه، وعلى رأسها: توفير المسكن الذي “تتبوؤه المرأة”، وإذا لم يستطع فلا زواج، ومن ثم لا إشهار ولا يحزنون، ومن الاشتراطات أيضًا أن يقر الرجل بالاستقلالية المالية لامرأته، فإن أنفقت عليه يجوز أن تحتسب ذلك صدقة، وأي رجل ذاك الذي يأكل من صدقة امرأته؟

هكذا تقضي الشريعة، تكريمًا للمرأة في المقام الأول، وأما في الزواج المدني فالأصل أن للمرأة حقوقًا، ويجوز تطليقها للضرر إذا لم يتوخَها الرجل.

وجود قواعد صارمة، دينية أو مدنية، يستهدف صون كرامة المرأة الإنسانية، في حين تحط فوضى المساكنة من شأنها، رغم ما يطنطن به “مناصرو الخلطبيطة” من عبارات رنانة عن حرية الجسد وحرية القرار، على شاكلة الأكليشيهات: “جسمك ليس عارًا يا عزيزتي”، حتى تنام مغناطيسيًا، فإذا هي معروضة في سوق نخاسة، ومن ثم تغدو أمّةً لرجل ليس عليه أي التزام، فتبذل له الجنس، ثم يسألها سداد حصتها الشهرية في فاتورة الكهرباء.

البحارة والميناء

علاقات المساكنة أشبه ما تكون بعلاقات البحارة بالميناء، ما إن ترسو سفنهم عليها حتى تنعر صافراتها، إيذانًا بأنها ستمخر العباب مجددًا، على عكس الزواج الذي يشترط قبل الإشهار أن يستقر في ضمير الطرفين، أن ما بينهما سيتسم بالديمومة.

استمرارية علاقة ما هنا أو هناك، والتنقيب عن أمثلة على غرار، أن فلانًا وفلانة تزوجا، بعد مساكنة طالت أو قصرت، محض استثناء يثبت القاعدة لا ينفيها.

ورغم أن القضية ذات شق قانوني، يتعلق مثلًا بأزمات إثبات النسب، وهو شق أخلاقي، وهو شق ديني كذلك، يرفض منافحون عن المساكنة طرحها إلا في سياق كونها حرية شخصية، والمثير للريبة أن أقوامًا منهم يُصابون بنوبات هياج، إذا ما تطرق الحديث إلى الدين.

هم ليبراليون، ولكن.

ولكن خلايا الليبرالية في نسيجهم العصبي، لا تُستدعى ولا تتحفز ولا تنفر ولا تفصح عن نفسها، إلا إزاء الحديث الديني.

وهم يساريون، ولكن.

ولكنهم لا ينبسون ببنت شفة، أمام الفاشية العسكرية، بينما يستلون سيوفهم في وجه فقير إلى الله مثلي، إذا استشهد بنص من الذكر الحكيم، ذلك أنه بفعلته الحمقاء تلك يستحق عليها الويل والثبور وعظائم الأمور، فلقد صبأ عن شرائع “ماركس” و”إنجلز”، وكفر بآيات كتابهما: “رأس المال”.

بعيدًا عن الدين، وقريبًا إلى الفطرة، هل يستساغ أن تعاشر روحٌ روحًا؟ فتنشأ الألفة النفسية، وتتصل وشائج التعلق، ثم يصحو واحد منهما مرةً، فلا يجد “إلفه” إلى جواره.

على هذا الأساس، هل بوسعنا اعتبار تلك العلاقة علاقة حب؟

إن الحبيب الصادق شعورًا، لا يطيق صبرًا على فراق حبيبته، وهو ما عبّر عنه شاعرنا عنترة بن شداد:

وأَرجو التَداني منكِ يا ابنَةَ مالكٍ

ودونَ التَداني نارُ حربٍ تَضرَّمُ

فَمُنّي بِطَيفٍ مِن خيالكِ واسأَلي

إِذا عادَ عنّي كيفَ باتَ المُتيَّمُ؟

إن حبًّا يؤسس على قاعدة أن الفراق وارد في أية لحظة، لا يوفر للعاشقين إلا التوتر والقلق، فالمحب يتوق إذا غابت الحبيبة عن عينيه، أن يزور خيالَه طيفُها، وهكذا كان الحب دائمًا وأبدًا، قبل “الحب في زمن المساكنة”، مع الاعتذار لـ”غارسيا ماركيز”.

إن تبريرات المساكنة، بارتفاع حالات الطلاق والنشوز والخيانة الزوجية والعنف الأسري، وما إلى ذلك من علل اجتماعية، أشبه ما يكون بإطلاق رصاصة على رأس مريض، لأنه مصاب بالصداع.

الأمر ليس حرية شخصية، ولا يمكن اختزاله في ذلك، بل إنه خطر داهم على الأسرة، التي إذا صلحت صلح المجتمع كله، والكارثة أن أصحاب الأصوات العالية ممن يقودون “الترند”، ويمارسون الديكتاتورية ضد الرأي الآخر، لا يكتفون بدعم أفكارهم، أو تطبيقها على أنفسهم فحسب، وإنما يعمدون إلى التحقير من رافضيها، على طريقة المثل الشعبي المصري: “الغجرية ست جيرانها”، وذلك حتى يدين الناس كلهم بـ”السمع والطاعة”، لباطل صار صوته أعلى، وصار كلّ يوم يتبجح أكثر، ويتواقح أكثر، ويتفاحش أكثر، وأنصاره يرفعون شعار: “مَنْ لا يُساكننا فليس منا”.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان