قوة “الفيس بوك”: قضية “توفيق عمران” نموذجا

توفيق عمران

ما زالت وسائل التواصل الاجتماعي تقدم ما يترجم قوتها، في فضائنا العربي الذي يصارع الاستبداد والتخلف. وهذه المرة جاء الحدث من تونس.

وبحلول مساء الخميس 21 سبتمبر الجاري وطوال الليل واليوم التالي، امتلأت صفحات “الفيس بوك” التونسية برسوم فنان الكاريكاتير “توفيق عمران”. وانتقلت الرسوم مع اسم صاحبها إلى صفحات بلا حصر خارج تونس، ومعها حكاية توقيفه من أمام منزله، واقتياده إلى مركز الشرطة، واستجوابه بشأن رسوم تنتقد رئيس الحكومة “أحمد الحشاني”، ومن قبل الرئيس “قيس سعيّد”.

على بعد آلاف الأميال، علمت كغيري من الملايين للمرة الأولى باسم “توفيق عمران”، وطالعت رسومه السياسية الناقدة الساخرة وخطوطه المتميزة فنيا، وأخذت في تتبعها. وقادني الشغف للبحث عن كل كلمة عنه، وكل رسمة منشورة تحمل توقيعه على شبكة الإنترنت. وأظن أن جمهورا كبيرا، وبخاصة من قراء اللغة العربية، فعلوا الأمر نفسه. وربما لم ينم الكثيرون كحالي في تلك الليلة، وهم يتابعون لحظة بلحظة ما يتسرب من محاميه عن تطورات احتجاز “توفيق” والتحقيق معه. وهكذا الحال، حتى جاءت الأنباء أولا عبر “الفيس بوك” بإطلاق سراحه، وبتراجع السلطة التي استهدفته ورسومه، وبعد السقوط السريع لادعائها أنه مطلوب في قضية “شيك بدون رصيد” تعود لسنوات بعيدة، لم يصدر فيها حكم قضائي.

لماذا نسبية التراجع والقوة؟

ومع هذا، يبدو التراجع نسبيا؛ لأن فنان الكاريكاتير التونسي مطلوب للعودة لتحقيق هذه المرة أمام النيابة، وليس رجال الأمن، في اتهامات “الإساءة للغير باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي”، وفي رسوم كاريكاتير منشورة “بالفيس بوك” تتناول بالنقد والسخرية “السيد الغير”. والمقصود رئيس الحكومة الجديد، الذي عينه الرئيس “سعيد” في 2 أغسطس الماضي بدون العودة لبرلمانه أو تصريح الرجل ببرنامج حكومته بعد. ولعل ظهور “الحشاني” المثير عندما تكلم للمرة الأولى بعد أكثر من أربعين يوما من الصمت التام، أسهم في رفع منسوب الاهتمام والاستدعاء لرسوم “عمران”، فلفت انتباه رجال سلطة متربصين وأثار غيظهم.

الأرجح أنه تراجع نسبي، وسواء أفلت فنان الكاريكاتير من مصيدة المرسوم 54 الذي سنه الرئيس “سعيد” في 13 سبتمبر 2022 ليهدد بأحكام سجن تصل إلى 10 سنوات المتهمين في قضايا النشر الإلكتروني، أو أطبقت المصيدة بقسوة وبدون فكاك عليه وعلى غيره.

وحقيقة فإن السياق الجاري في تونس بعد 25 يوليو/تموز 2021 لا يبشر بخير بالنسبة لحرية الصحافة، وللحريات والحقوق والديمقراطية بصفة عامة. وتكفي الإشارة إلى حكم الاستئناف الصادر يوم 16 مايو/أيار الماضي بسجن الصحفي “خليفة القاسمي” خمس سنوات في قضية نشر. وهو الذي اعتبره بيان النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين “الأعلى والأكثر قسوة في تاريخ الصحافة التونسية كله”.

والمؤسف أنه بعدما كنا نحن الصحفيين نغبط زملاءنا في تونس -إذ كتبت ونشرت على سبيل المثال في “الأهرام” بتاريخ 20 يناير/كانون الثاني 2015 مقالا بعنوان “ربيع الصحفيين في تونس”- أصبحنا نتابع معا بأسى “الصعود الشاهق” لحرية الصحافة التونسية من المرتبة 121 في تقرير اللجنة الدولية لحماية الصحفيين عام 2010 إلى 72 عام 2020 ثم “العودة غير المظفرة”، إلى المرتبة نفسها قبل الثورة (121) عام 2023.

وعلى أي حال، يظل ما جرى إلى الآن بشأن الإفراج السريع عن “عمران” وقوة وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي مع قدرة قطاعات من المجتمع المدني هناك على التفاعل مع ما تنشر بسرعة وإيجابية، أفضل من حال مجتمعات عربية أخرى.

وسيظل المتخصص في الصحافة، تقليدية وبديلة، يتساءل عندما يتأمل ما يجري في عدد من هذه المجتمعات وإعلامها ونقاباتها: كيف يمكن الاحتفاظ اليوم بمعلومات على غرار حالة إيقاف رسام الكاريكاتير التونسي ولأسابيع وأشهر طي الكتمان؟ وأي “تنظيم حديدي محكم” يمنع تسرب أخبار كهذه ونشرها؟ وكيف تنمو ثقافة الصمت والخوف والسلبية لتضرب حتى في بنيات وواجبات وتقاليد نقابات صحفية، وقلوب وضمائر جماعات مثقفين ومجتمع مدني بأسره؟

وإلى جانب هذا وذاك، وعند هذه المجتمعات أو حتى المجتمع التونسي، ليس صحيحا دوما أن ينتهي تأثير وسائل التواصل الاجتماعي إلى إظهار ذات القوة والفاعلية. وبالأصل فإن “الفيس بوك” وأخواته ساحة مفتوحة لآراء مختلفة متضاربة اتجاه ذات الواقعة/ الحدث. ويحتمل توظيفات متعددة لنشر المعلومة عن الواقعة ذاتها، فضلا عن ركام المعلومات الزائفة، التي تتطلب من المستخدم المطلع عليها الانتباه والتحقق.

 

لكنه الانتشار الكبير

في لحظات

لكن الثابت هنا أن قوة “الفيس بوك” تجلت مع حالة “توفيق عمران” مجددا، وفي سياق هذا التحول الخطير من ديمقراطية هشة كانت في طور التشكل بمنطقتنا بعد ثورة شعب، إلى العودة إلى الاستبداد. وهي قوة ترجمت فاعليتها ليس فقط في نجاح الضغط للإسراع بإطلاق سراح فنان الكاريكاتير الناقد للسلطة والساخر من رموزها على القمة. بل وكذلك في درجة الانتشار والشيوع التي حققتها للفنان ولرسومه في غضون ساعات معدودة، وعلى نحو لم يتحقق له ولها على مدى نحو ما يزيد على الأربعين عاما من حياة إبداعاته.

وبالبحث أيضا على شبكة الإنترنت وسؤال أصدقاء صحفيين تونسيين عبر وسائل الاتصال الإلكتروني أمكن أن أعلم أن “توفيق عمران” (64 سنة) بدأ نشر رسومه في الصحافة التونسية المطبوعة منذ نهاية عقد السبعينيات. وكان من المساهمين في صحف مستقلة وحزبية معارضة إلى نهاية عهد “بورقيبة ” وبداية زمن خلفه “بن علي”، ومن بينها صحف “الرأي” و”الموقف”. ومع اتضاح نزعة الأخير الدكتاتورية القاسية توقف واختفت أعماله من الصحافة، ولم يعد إليها إلا بعد الثورة التونسية. وربما كانت له بعض الأعمال المنشورة على نحو أو آخر في السنوات الأخيرة من حكم “بن علي” على مواقع بشبكة الإنترنت، وبعضها يحمل توقيعات مستعارة. أقول ربما لأن روايات الأصدقاء اختلفت في هذا الشأن.

 

يخافونه ويخيفون

منه ويستخدمونه

يقارن المرء من جيلي اليوم بين انفجار المعلومات خلال ساعات بل لحظات وقوة تأثيرها عند تأمل نموذج رسام الكاريكاتير التونسي، وبين ما كان عليه الحال مثلا خلال سنوات السادات الأخيرة (سنوات الصلح مع إسرائيل نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات)، قبل نحو أربعين سنة. وقتها كان على من يهتم أن يترقب لأسابيع تسلل صحف مطبوعة لبنانية أو كويتية أو غيرها خلسة مع قادمين عبر مطار القاهرة، كي يعلم من أخبار مصر وتفاصيلها ما هو محظور تداوله ومعرفته بالداخل.

وفي هذا السياق، فإن قوة وسائل التواصل الاجتماعي من “فيس بوك” و”تويتر” و”إنستغرام” و”تيك توك” وغيرها تظل إيجابية، وفي صالح حق الناس أن تعلم. ويظل على المواطنين الأحرار أو الساعين للحرية ممارسة المسؤولية الذاتية في أن يقارنوا ويغربلوا، ويحكموا العقل والضمير.

ولعل تجربة ليلة الجمعة التونسية هذه تدعو إلى تذكر وتأمل الكراهية والحنق إزاء “الفيس بوك” ومجمل وسائل الإعلام غير التقليدي اللذين أظهرتهما الأنظمة الدكتاتورية وأتباعها قبل أكثر من عقد. وتوثق أرشيفات كبريات صحفنا العربية تدبيج مشاهير كتاب ومثقفين وباحثين مقالات بلا حصر تهاجم “الفيس بوك”، وتعتبره “فوضى وإساءات ولا مسؤولية وتضليلا” مطلقا. وكأنهم يسعون بفيض كلماتهم تلك لإطالة عمر احتكار السلطة للمعلومة ولوسائل الإعلام الجماهيرية، أو شبه احتكارها، ولتسلطها على عقول الناس.

وحينها لم يقولوا لمن يكتبون ويتحدثون ما يعلمون من حقيقة تاريخية، وهي أن كل تقدم تكنولوجي صحب تطور البشرية والمجتمعات يحمل معه فرص وإمكانات استغلاله على غير نحو واحد، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض. وفي كل الأحوال، فإنهم لم يتورعوا بدورهم عن استخدام “الفيس بوك” وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام غير التقليدي، وإن لم يتوقفوا إلى اليوم عن إثارة الخوف والنفور منها.

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان