“التغافل” بين الذكاء وإضاعة الحقوق

من الذكاء “اختيار” حماية أنفسنا من التورط في الاهتمام “بصغائر” البشر وإضاعة بعض طاقاتنا في التوقف عندها، وأن “نجدد” اختيار التغافل المفيد ونتجنب الذي يجلب الخسائر..
التغافل فعل “إرادي”؛ فنبدو وكأننا لم نلاحظ تصرفًا ما أو في غفلة منه، في حين أننا لاحظناه جيدا وفكرنا “وتيقنا” مكاسبنا بتجاوزه.
في الأسطر التالية سنوضح متى يكون واجبًا ومتى يكون مرفوضًا وسلبية لا ينبغي تزييفها ومنحها بريق التغافل “للتغطية” على شوائبها.
يتجنب التغافل الذكي كل ما يمس الحقوق؛ معنوية كما يمس الكرامة ومادية بأنواعها..
صراعات وخسائر
التغافل مطلوب بشدة خاصة مع تزايد الضغوط بأنواعها وتناقص العلاقات الاجتماعية الجيدة، ولنتدبر قول الإمام علي كرم الله وجهه: “من لم يتغافل تنغصت عيشته”؛ فسيتوقف عند كل صغيرة “وينهك” عقله في التفكير فيها ويجهد نفسه في صراعات تستنزفه ويخسر بعض العلاقات؛ فيقدم نفسه للناس كشخصية “يصعب” التعامل معها، فيتحفزون ويتشددون معه “ويسيئون” تفسير كلامه وتصرفاته العادية.
تضيع بعض الحقوق بسبب ما نسميه التغافل في غير موضعه؛ ونجد صعوبة بالغة في استردادها، وتشعر الأطراف الأخرى بالظلم وبأننا نعتدي على حقوقها.
يؤدي التغافل الخطأ دورًا كبيرًا في صناعة النكد خاصة الزوجي والأسري بشكل عام، وأحيانا في علاقات العمل؛ فيشعر من “يختار” التغافل بأنه يفعل الكثير ولا يجد التقدير المناسب؛ فيتضايق ويكتم ضيقه ويرثي لحاله ويتحسر على نفسه، ويتسرب النكد إلى عقله وقلبه فيقود تصرفاته مع من تغافل معهم “لإرضائهم” وهم لا يعلمون ذلك؛ فيتضايقون من تصرفاته معهم ويردون بالأسوأ وتتنقل “جمرات” النكد فتصيب الجميع وقد تنهي بعض العلاقات بنهايات سيئة لم يتوقعها أحد يومًا.
ننبه إلى أن التغافل الناجح يكون مع “الصغائر” فقط وخاصة التي تحدث مع أناس لا نتعامل معهم إلا نادرًا أو لن نقابلهم ثانية، أما مع شركاء الحياة فالتغافل المتكرر عن الصغائر سيجعلها “عادة”؛ وعندئذ ستتراكم وستكون قنبلة “موقوتة” تنفجر يومًا ما لأتفه سبب، وسيكون المتغافل في موقف المخطئ، وقد يُقال له لماذا تغافلت سابقا دون أن يطلب منك ذلك؟! وكما قال كيسنجر بحق فإنه “لا أحد يدفع ثمن ما حصل عليه مجانا”.
يجب ألا نجعل الآخرين يعتادون على تغافلنا فيرونه حقًّا لهم ولو بعد حين، وحين نمتلئ غضبًا منهم وننفجر في وجوههم فسنصبح كأننا المعتدون.
انفجار وهروب
يخلط كثيرون بين التغافل والتماس الأعذار؛ ومن الخطأ التماس العذر لمن يخطئ وهو يعرف أنه يخطئ، والتماس العذر لمن يكرر نفس التصرف المسيء متعمدًا أو متحديًا.
وفي كل العلاقات من “حقنا” وواجبنا الحرص على أن يكون التماس العذر والتغافل من الطرفين وليس من طرف واحد فقط.
التغافل في التربية سلاح ذو حدين فيفيد إذا أساء الطفل التصرف من أجل لفت النظر أو للعناد، ويضر عندما يتصرف بسوء أدب؛ إذ سيختاره مجددًا ونحن المسؤولون عن ذلك.
الانفجار بعد التغافل خطأ شائع؛ ولذا فلنراقب ما نقوله لأنفسنا عند التغافل، هل نفعل ذلك من أجل الفوز برضا الناس عنا؟ إذا كان الجواب “نعم” فلنتبنه ونتوقف لأنه خطر وخطأ فادح؛ إذ سنفقد الكثير من تقديرهم لنا وسنصنع مشاكل بأيدينا.
هل نتغافل للهروب من المواجهة؟ إن ذلك سيتسبب في تضخم المشكلة “وسنضطر” يومًا إلى مواجهتها وسنبذل جهدًا أكبر بخسائر أكثر.
التغافل الذكي هو “التيقن” من أن هذا الأمر لا يهم كالتغافل عن سخافة تعرضنا لها أثناء قيادة السيارة؛ لأننا لن نرى صاحبها مجددا، وليس من الذكاء إضاعة جزء من الطاقة ومن العمر في التفكير في معاقبته، وينبغي أن لا نخبر أحدًا به فنجدد الانزعاج؛ فالتغافل الناجح نمحو بعده آثار ما تغافلنا عنه بكامل إرادتنا وبوعينا ونحتفل بأننا فعلنا الصواب، وإن تذكرناه نبتسم بحب واحترام ونربت على النفس “ونحتفل” بذكائنا؛ فالتغافل الذكي ليس سطحيًّا فلا يتغافل الإنسان عن موقف ثم يجلس ليجتر الغضب وحده؛ فالتغافل الذكي كإزاحة التراب ثم “التأكد” من غسل اليدين جيدا فلا يؤذي نفسه به؛ ولنتذكر القول الرائع: “سيد قومه المتغابي” وأيضا قول الشاعر:
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا * صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
ونؤيد قول جبران خليل جبران: “ستدرك أن نصف حزنك لم يكن إلا بفعل تحليلك العميق وتأملك الدقيق؛ بينما الأمر لم يكن يتطلب منك إلا أن تتخطاه دون تفكير”.
التغافل الأفضل يكون مع المسنّين وتفهم “اختلافهم” عنا في أمور كثيرة “وتعمد” حسن معاملتهم برفق واحترام وليس بشفقة؛ فالأخيرة تؤذي مشاعرهم وتصلهم “بوضوح”؛ وقد تدفعهم إلى الحدة، والاحترام والود يجعلانهم يبتسمون برضا.
التغافل ليس أسلوب حياة طوال الوقت؛ ومن يفعل ذلك يضر نفسه؛ فيجب أن يكون له حدود “وشروط”، ويجب التوقف عنه عند عدم فهمه ممن نتعامل معهم والتراجع عنه “فورا” مع عدم محاسبتهم عما تغافلنا باختيارنا التام عنه سابقا؛ فلم يجبرنا أحد عليه وسنصنع مشاكل بالمن عليهم بتغافلنا السابق وربما “ننبههم” إلى أننا سنغير ردودنا، والأذكى تغييرها في صمت بلا حدة أو كلام عن نفاد صبرنا، وأنهم لا يستحقون تغافلنا وحسن معاملتنا لهم وحرصنا عليهم، وآن الآوان لرد الصاع “صاعين”..
كل ذلك قد يمنحنا بعض من الشعور برد الاعتبار، ولكنه سيفتح أبواب صراعات لا داعي لها، ستستهلك بعض طاقاتنا وتعطلنا عما يهمنا، لا نحتاج إلى رد الاعتبار؛ فقد تغافلنا لأننا “اعتقدنا” أن ذلك أفضل وبعد التأكد أننا خسرنا بسببه فلنتراجع بلا ضجة.
يحتاج التغافل إلى ذكاء وقوة شخصية؛ فنثق بأننا لا نحتاج إلى الصوت العالي ولا إلى ضرب كل من يتصرف بما لا يعجبنا على يديه “وتقبل” الاختلافات ما دامت لا تمس حقوقنا.
يمنحنا التغافل الذكي “البراح” الذي يساعدنا على التركيز في النجاح وإسعاد أنفسنا، وغيابه يحرمنا منهما.