في غيابه الحضور

جمال عبد الناصر

 

 

نصف قرن وثلاث سنوات مضت على غيابه، ولا يزال اسمه يملأ أرجاء الدنيا، لم يغب لحظة واحدة عن وجدان من أحبوه وتشاركوا معه في حلمه، وهؤلاء الذين يكرهون مجرد ذكر اسمه مكتوبًا أو منطوقًا أو حتى عابرًا، بل يمكن القول إن هؤلاء الذين لا يطيقون اسم جمال عبد الناصر وسيرته وتاريخه هم أكثر ما يتداولون هذا الاسم في عقولهم وكتاباتهم وأحاديثهم، فما سر الحضور الدائم لجمال عبد الناصر رغم نصف قرن ويزيد على غيابه؟

لم تكن قضية جمال عبد الناصر في حضوره ليلة 23 يوليو 1952، فما أكثر الثورات العسكرية التي قامت في معظم دول العالم في تلك الفترة قادها عسكريون، إذا تألمت من كلمة ثورة وسببت لك حساسية فسمها انقلابًا (ليكن)، ولك أن تبحث وتدقق لتذكر أسماء من قاموا بهذه الثورات أو الانقلابات، ستجهد نفسك كثيرًا لتتذكر أحد الأسماء، لكن جمال عبد الناصر حسين حاضر دومًا، فما السر؟

لقد سار قائد ثورة يوليو عكس الطريق الذي رسموه للتغيير في المنطقة العربية، ظنوه عسكريًا، فكان سياسيًا مصريًا عربيًا حتى النخاع، ظنوه يريد سلطة، فكان يريد مشروعًا مصريًا عربيًا مستقلًا، ظنوه عسكريًا صغيرًا يتعلم، فكان صاحب رؤية ومشروع لا تحده خطوط طول ولا دوائر عرض، لم يستكمل خطتهم في القضاء على أمة، فصار حلمًا للأمة أن تنهض وتتوحد وتعيد قوتها رقمًا في العالم.

إشكالية الحضور

لم تكن قضية جمال عبد الناصر مع أعدائه أن زعيمًا لقي هزيمة كاسحة صبيحة 5 يونيو 1967 كانت كفيلة بإنهاء سيرته وتاريخه، كما حدث مع كثيرين من قادة العالم، فإذا بحلمهم في إنهاء ناصر يتحول إلى كابوس بخروج الملايين بعد أربعة أيام ليعيدوا له بهاءه وقوته، لقد حول الهزيمة بقدرة المقاومة وبشعبه الذي يؤمن به إلى نقطة جديدة من الانطلاق، ويقف مرة أخرى يعيد صياغة مشروعه ويعيد بناء الجيش الذي ظنوه سيصبح طوع أياديهم وهو ما تحقق لهم بعد انتصاره، ولكن في غياب عبد الناصر.

يظل أعداء عبد الناصر لمدة نصف قرن يكررون رواية الهزيمة، ولكنهم لا يذكرون إعادة بناء الجيش ولا حتى انتصاره، ويتوقفون عند صبيحة يوم الهزيمة وكأنها هزيمة الرجل فقط، ولا يذكرون أممًا أخرى هزمت وتحطمت وقامت، ولا رؤساء أو خلفاء أو سلاطين فشلوا ونجحوا، حتى لا يتذكرون أن أنبياء هزموا في معارك وغزوات، لكنهم يتذكرون لناصر فقط، حتى أقرب هزائمنا العربية من عصر جمال عبد الناصر في حرب فلسطين 1948 لا يتذكرونها، بل إن بعضهم ينسبون الهزيمة إليه!!

هل كانت قضية جمال عبد الناصر هي علاقته مع الإقطاع وإعادة توزيع الأراضي الزراعية على صغار المزارعين الذين يمتص كبار الملاك جهدهم وعرقهم؟ فالمشروع ليس وليد أفكار جمال عبد الناصر ولا زمنه، وهؤلاء الذين يصرخون ليل نهار على تفتيت الأراضي الزراعية أغلبهم إن لم يكونوا جميعًا نتاجًا لإعادة توزيع الملكية الزراعية، كما أنهم جميعًا لا ينظرون إلى كيفية توزيعها من الأساس، ولماذا سميت إقطاعية في الأصل؟ لكنهم يتجاهلون ذلك ليس نكاية في الرجل، بل في مشروعه.

التأميم والتعليم

على الخطى نفسها يمكننا أن نقول إن قضية جمال عبد الناصر في عقول منتقديه ليست قضية التأميم التي يتشدق بها الكثيرون، ويبحثون عن حالات تبدو فردية وقليلة العدد لمن تم تأميم مصانعهم أو مؤسساتهم، وهذا وارد جدًا، وكأن جمال عبد الناصر ذهب بذاته يأمم فلانًا، بل وصل الأمر لبعضهم أن يتحدثوا عن اليهود المتعاونين مع الكيان الصهيوني وتم تأميمهم ليدافعوا عنهم، ليس بالتأكيد حبًا في هؤلاء، بل نكاية في جمال عبد الناصر ومشروعه.

يقولون إن جمال عبد الناصر أفسد التعليم بالمجانية، وحين ترد أن مجانية التعليم إنجاز له، يقولون إنه مشروع قبل جمال عبد الناصر، وإن التعليم كان مجانيًا حتى الثانوية، وإذا قلت إن الثورة المصرية بنت في كل قرية، مدينة، مركز، مدارس، يقولون أدخل أولاد الطبقات البسيطة المدارس ولم تعد الأرض الزراعية تجد من يزرعها، لا بد أن الشيطان الذي يقف ليشيطن إنجازات عبد الناصر كلها، ويوسوس في العقول لأكثر من نصف قرن قد نجح في هذا التشويه كله.

هل حضور جمال عبد الناصر مرتبط بكونه رئيسًا لمصر أو لأي دولة عربية أو إسلامية؟ مؤكد أنه لا، فهناك المئات من الرؤساء الذين حكموا، ولكنهم لا يذكرون ولا أحد يتذكرهم، هل لأن جمال كان أكثرهم فسادًا؟!! لا، فلم يضبط له شبه فساد على الإطلاق، هل كان جمال أكثر عنفًا وديكتاتورية؟!! لا، فكم من الرؤساء والخلفاء والسلاطين أبادوا شعوبًا ومدنًا وقرى، ولم يفعل جمال عبد الناصر ذلك، بل إن الذين حبسوا في عصره من اليساريين ظلوا لآخر حيواتهم يتغنون بناصر وما قدمه لأمته، أما الإخوان المسلمون أظنهم الآن يدركون الفرق.

كل ما سبق يمكن أن يستحضره بعض من ينتقدون حضور جمال عبد الناصر، يتحدثون عن مساعدات ذهبت لثورات اليمن، الجزائر، الكونغو، وثورات حول العالم، وتنمية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق البعيد، ويتباكون على ضياع الدور المصري في هذه الأماكن كلها، ويتناسون أن الأمة الإسلامية كانت تمتد إلى أقصى الشرق الآسيوي، وأقصى الجنوب الإفريقي، يتحدثون عن بطولات إبراهيم باشا في إفريقيا، وينتقدون جمال عبد الناصر في نفوذه الثقافي والدعم للبلاد الإفريقية.

الوحدة والحرية

ينتقدون جمال عبد الناصر في توجهاته نحو الوحدة العربية، ثم يتحدثون عن وحدة إسلامية، ويتباكون على تمزق العرب والإمة، يتباكون على المصانع التي تباع والأرض التي تباع، والمؤسسات التي تستبدل بفنادق ومشاريع يشتريها الأغراب، ولكنهم ينكرون أنها نتاج عصر جمال عبد الناصر، يتباكون على ضعف مصر أمام إثيوبيا في معركة سد النهضة، وينكرون على عبد الناصر أعظم مشروع هندسي في القرن العشرين ويدعون أنه أفقد التربة الخصوبة، بينما يحمي مصر من الجفاف المائي وسيحميها، يتباكون على فلسطين، وينكرون على ناصر حضوره في قلب القضية وكونها قضيتنا جميعًا.

إن حضور جمال عبد الناصر ليس في كونه رئيسًا مصريًا حكم فترة من الزمن، حضور جمال عبد الناصر المستمر هو في مشروعه، التنمية، الاستقلال، الوحدة، فلسطين، الأمة العربية، المؤسسات، المصانع، السيادة، الكرامة العربية والمصرية، دعمه للبلاد الإسلامية، دعمه لثوار العالم، محاولة بناء أمة قوية، تلك هي مشاكل جمال عبد الناصر مع أعداء أمته، وذلك هو الحضور الذي لا يغيب.

قضية جمال عبد الناصر باختصار يا ساده أنه كان خارج النظام الذي حاول الغرب بناءه بعد انهيار الدولة الإسلامية الكبرى، وتفتيت الأمة العربية، وحبس أقطارها داخل حدودها، واحتلالها بالقوة العسكرية قبله، واحتلالها ثقافيًا وفكريًا بعده بقليل، ثم السيطرة عليها بحكام يدينون بالولاء لأعدائها، لذا سيظل حضوره في وجدان الأمة محفزًا لها على النهضة، وفي عقول أعدائها نموذجًا للثورة عليهم والوقوف في وجه استعمارهم للأمة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان