هيكل.. 100 عام من “الأستاذ”

قبل سنوات سبع، سُجي جسده بمسجد الإمام الحسين في مشهد غير مهيب غابت عنه مصر الرسمية بقلب القاهرة الفاطمية، لكن الحي العريق الذي شيع منه، كان مرتع صباه بعد أن ولد لتاجر ميسور في قرية على أطراف العاصمة بمحافظة القليوبية قبل 10 عقود كاملة، ثم انتقل لحي الحسين ليقضي طفولته في الجمالية بين البيوت القديمة والأزقة العتيقة والمساجد الأثرية.
كانت حياته استثناء، من القصص العادية في معظم تفاصيلها، وبدا دائمًا أن أقداره تمضي متوازية مع اجتهاده، وهي تجنبه مسارات تقليدية وأخرى معتادة في قصص المبدعين والعباقرة، وتفتح له في الوقت نفسه بالمصادفة حينًا وبالتخطيط أحيانًا، آفاقًا رحبة للتعرف والتلمس والمعاينة والمراقبة، وتمنحه بعد ذلك فرصة الاستكشاف والتأمل فيما جرى، وتصور ما يمكن أن يكون.
في عام 1930 عندما بلغ السابعة من عمره، كانت مصر تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم في عدد الأميين من السكان وقد بلغت نسبتهم 88%، وفقًا لرسالة الباحثة آية سمير غريب في كلية الآداب بجامعة القاهرة.
وفي عصر كان يجتهد من أجل تعليم المرأة كانت أمه -وهذا استثناء أول- هي التي تجيد القراءة والكتابة، بينما كان أبوه تاجرًا أميًا، لا يعرف كتابة اسمه، وكانت أمه تقرأ لأبيه بصوت عال من كتاب أو صحيفة فيسترق السمع منتبهًا وسابحًا بين ما تلتقطه أذناه من تراث، كما كانت حكاياتها التي تختزنها من القراءة لترويها له أول نافذة أطل منها على عوالم الخيال لتكون غرة مؤثرات معرفية تراكمت في حياة الطفل الذي سيصبح لاحقًا، أبرز علامات الصحافة العربية في القرن العشرين.
الباب الأوسع
في كُتاب “سيدي معاذ” بحي الجمالية، كان حفظ القرآن بابه الأوسع الذي دخل منه إلى عوالم البيان وسحر اللغة العربية، فأبحر بين المترادفات والتضاد، والقصص والأمثلة، والحكم والمأثورات، فتكون قلمه وسط سحائب الحروف الفخيمة التي تقطر أدبًا كلما هطلت على الورق.
أجاد اللغة الإنجليزية بطلاقة الدارس المختص رغم أنه لم يدخل الجامعة، ولم يتخرج في أي كلية -وهذا استثناء ثان- وكان حظه من التعليم الرسمي دبلوم التجارة المتوسطة، لكنه نهل من دراسات حرة في الجامعة الأمريكية، بمثابرة التعلم الذاتي ما جعله في مستوى أستاذ جامعي في اللغة وليس مجرد خريج يعلّق شهادة في إطار على جدران التفاخر، دون مقدرة على أن يدير حوارًا، أو يقرأ كتابًا كاملًا في لغته الأجنبية.
بدأ في بلاط صاحبة الجلالة، محررًا في صحيفة مصرية ناطقة بالإنجليزية، تتوجه إلى الأجانب والنخب في بلد تحتله الأمية وليس عساكر الإنجليز وحدهم، ثم استجاب لنصيحة أستاذه محمد التابعي فانتقل للكتابة باللغة العربية -وهذا استثناء ثالث- فمن يبدأ بالصحافة الإنجليزية لن يجد سبيلًا سهلًا للعودة إلى العربية، إما لضعف أصيل لديه في اللغة الأخيرة، أو لإغراء الاستمرار في اللغة الأولى التي كانت تجوب العالم حتى قبل عصر المعلومات والإنترنت.
كان هيكل مستعدًا للكتابة بالإنجليزية بحكم الاجتهاد، لكنه كان أكثر استعدادًا للكتابة بالعربية بحكم المعرفة الأصيلة التي جُبل عليها، والمخزون الذي تسلل إليه من معايشة حي تاريخي، وملاصقة أم حكاءة، ومطالعة مكتبة ثرية، وحفظ نص ديني معجز في مادته ومعناه.
لاعب شطرنج
لم يكن محمد حسنين هيكل مجرد صحفي أو كاتب يركض بالأقلام لاهثًا على الأوراق، ليقرع الطبول قبل غيره لفتًا لأنظار السادة الكبار، بل كان كلاعب الشطرنج يفكر كثيرًا، ويتمهل قبل أن يرسل قلمه ليعانق السطور، في حرص محمود على استعراض ثقافته اللغوية وحافظته الشعرية وذائقته الأدبية، وعلى استدعاء بصماته في كل كلمة وعبارة وجملة، ليكشف تميزه وعلو جودته.
نقب هيكل في مناجم اللغة العربية عن مصطلحات مستخرجة من تفجير الصخور، وتسوية البروز، وصقل المنطفئ، ليصنع قاموسًا وحده، تستطيع أن تلتقط مفرداته وتميزها بين عشرات المخطوطات التي يكتبها مجايلوه أو تابعوهم بلغة الضاد.
تأثر “الجورنالجي” -وهو لقبه الأثير- بالمتنبي شاعر العربية الأهم، وكان نموذجه الذي احتذاه في موسوعية المعرفة، وهضم التراث الإنساني، وشموخ اللغة، فتسلل عبر سنوات من الإبداع إلى عروش المقالات، تمامًا كما كان المتنبي ولم يزل أبرع من اعتلى عروش القوافي.
طاف محمد حسنين هيكل مع دوران المطابع، بين صحف عدة مراكمًا خبرات نادرة تنقل فيها بين الخنادق والفنادق، وعرج على قصور الحكم، وميادين القتال، وظهر في موانئ الحكام، ومرافئ المعارضة، وجالس المفكرين والمراهقين في عالم السياسة، فطالع عن قرب كيف تكون الرصانة والاعتدال، وكيف تكون السذاجة والابتذال.
وفي كل مرة بدا فيها أنه يتسلل من مرتبة النديم الناصح إلى مرتبة السياسي المشارك، كان هناك نداء يهتف في أعماقه “سجل أنا صحفي”، فكان يعود بسرعة لقلمه ليثبت تفاصيل يومه بدقه ويخطط لغده بدأب، عالمًا باستشراف نادر أنه سيأتي يوم تكون كل ورقة وكل قصاصة خطها بيده وثيقة في حد ذاتها، تقفز بقلمه إلى عناوين الصحف أو أغلفة الكتب.
الاقتراب من عبد الناصر
اقترب هيكل من الرئيس جمال عبد الناصر، ومن دوائر الحكم، وكان زاهدًا في مناصب السياسة مفضلًا موقع الصحفي الذي يشير بالقلم على ما يراه مواضع الألم، ويصف الدواء لما يعتقد أنه موطن الداء، ويقدم تشريحًا للنار وتفسيرًا للدم.
يقول منتقدوه إنه كان حريصًا أن يكون الصحفي الأوحد في عهد “ناصر” ليحصل منه على المعلومات، لكن الحقيقة أنه كان مصدر معلومات حيوي للرئيس عبد الناصر الذي تعرف إليه في أثناء حرب فلسطين عام 1948، وتوثقت العلاقة في أجواء ثورة 23 يوليو 1952، وأصبح هيكل عرابًا لنظام ناصر ومُنظرًا لسياساته.
في اتجاه معاكس لاقترابه من “ناصر” مضى هيكل بعيدًا عن الرئيس أنور السادات، ودفع ثمن اختلافه تركًا لمقعد رئيس تحرير صحيفة الأهرام التي كان “الأستاذ” حبرها الأعظم، لكن هيكل ما بعد الأهرام وانتقاله من متون الإقليم إلى متون العالم فتلك قصة أخرى.