الدبابة لا محطة نهائية لها في إفريقيا
هل هناك انقلاب عسكري جيد وانقلاب شرير؟!

كما أبدع نجيب محفوظ أديب نوبل في تصوير تعاقب الحياة والموت مثل تعاقب الصباح والمساء في رواية “حديث الصباح والمساء”، فإن إفريقيا القارة الجديرة بالحصول على كل الجوائز العالمية في الاستبداد والفساد والاقتتال تشهد تعاقبًا من نوع آخر كل صباح ومساء، هو الانقلابات العسكرية.
إفريقيا هي صاحبة الأرقام القياسية في تفشي هذه الآفة السرطانية المدمرة للسياسة والاقتصاد والمجتمع والحريات والكرامة والفكر والإنسانية، إذ لم يكد يمر شهر على انقلاب النيجر 26 يوليو الماضي حتى وقع انقلاب الغابون 30 أغسطس.
وقبلهما هناك مئات الانقلابات في القارة السمراء، والسمرة لون جميل، لكن إفريقيا مظلمة في الحكم المطلق، ودموية في بطش السلطة، وفاشلة في التنمية وانتشال الإنسان من مستنقعات الفقر والحرمان.
الانقلاب عدوان
إذا كان لكل انقلاب أسبابه -مثل ما وقع في النيجر والغابون- فإن الانقلابات في النهاية اعتداء على بناء وتطور الأوطان وحقوق وإرادة وحرية الشعوب، ولا مبرر لقبول هذا العدوان الصارخ على طبيعة الحكم في أي دولة متمثلًا في حكم الدستور والقانون وممارسة الشعب لحقه الأصيل في اختيار من يقوده ويمثله ويخدمه.
قولًا واحدًا، ليس هناك انقلاب جيّد وطيّب، وانقلاب سيّئ وشرّير، فالدبابة عندما تتحرك للسيطرة على مراكز الحكم وبثّ الرعب تصير مصدر كل الشرور التي تجلب معها القهر والقمع والفقر والفساد والديون والدكتاتورية.
لا قبول للعصف بالحكم المدني الشعبي وقيم وآليات الديمقراطية والاختيار الحر وصناديق الاقتراع والتنافس الحزبي والفردي والتفاعل الجماهيري في أي بلد، مهما كانت الأسباب التي يروّج لها الضباط لاستجلاب تعاطف الناس وخداعهم ونيل الدعم والمساندة منهم حتى يستتب لهم الأمر فيبدؤوا التنكيل وتكميم الأفواه وفتح أبواب السجون.
وفي تاريخ الانقلابات في إفريقيا، ومنها الشمال العربي، وفي المناطق الأخرى الموبوءة بها، لم تتحقق نتيجة واحدة إيجابية للشعوب ولم تزدهر الدول، وأوضاع الأفارقة خير برهان، فهم في أدنى سلم كل مؤشرات التنمية البشرية والحياة الكريمة، وهم الأكثر هروبًا من بلدانهم بحثًا عن ملاجئ خارجية حتى لو كان الموت يتخَطّفهم في رحلات الفرار.
كراهية فرنسا والتعاطف مع الانقلابيين
أستغرب كتابات تدين انقلاب النيجر على رئيس منتخب، وهي في الوقت نفسه تبرر الجريمة بأن الرئيس المُطاح به محمد بازوم يخضع لفرنسا والغرب، وهذا منطق فيه التواء، فالانقلاب مُدان تمامًا، وفتْحُ نافذة أمامه ليتنفس منها بالزعم أن العسكر تحركوا للتحرر من سطوة باريس والغرب هو حديث من لايؤمن بالديمقراطية حيث هي عنده ذات أوجه متعددة وفق الأيديولوجيات والأهواء.
قد تكون سياسات الرئيس غير موفقة، وقد يكون انحيازه إلى دول معينة خطيئة وتبديدًا للموارد، لكن هذا الخلل يسهل علاجه عبر الممارسة السياسية والبرلمانية وضغوط المعارضة والإعلام ومختلف قوى المجتمع، وبواسطة صناديق الانتخابات وجميع وسائل الإصلاح والتغيير.
أما الانقلاب الذي يُطيح بالحكم الدستوري والمؤسسات ويُرهن البلاد لإرادة عسكرية لا تؤمن بالسياسة والحوار والتداول السلمي للسلطة فلا خير من ورائه، إنما هو شر مستطير مُسطّر في كل بلدان الانقلابات سواء من انقطع دابره فيها، أو من لا يزال نشطًا مُنتزِعًا روح الحياة من السياسة مُذِلًا للأوطان والأحرار.
من باريس إلى روسيا والصين
إذا كان الرئيس بازوم فرنسي الهوى، فإن الضباط ينظرون إلى الروس والصينيين، وباريس وعواصم الغرب لا تفرض نفسها، ولكن فشل الحكام ونخب المجتمع في حسن إدارة بلدانهم وخلافاتهم يتسبب في الفقر وتبديد الموارد واستدعاء قوى كبرى تنهب خيرات الشعوب بموافقة الحكومات الوطنية.
لا تلوموا اللص أولًا، وإنما اللوم لمن استدعاه أو ترك الباب مفتوحًا له، وهذا دأب عالم الجنوب المنكوب بأنظمة فاشلة تُخرّب بلدانها وتُجوّع شعوبها وتستدعي الكبار لدعمها مقابل نهب الموارد.
خدعة الغابون
في انقلاب الغابون، يبدو الأمر في ظاهره أنه كان ضروريًّا لقطع الطريق على رئيس ورث الحكم عن والده -عائلة تحكم البلد منذ 56 عامًا- حيث تم إعلان فوز علي بونغو لدورة ثالثة بعد التلاعب بالدستور والانتخابات، ليحصل على 7 سنوات جديدة بعد 14 سنة من الحكم العاجز عن تحسين أوضاع المواطنين رغم النفط والموارد الطبيعية السخية في بلاده، مثل النيجر تمامًا.
هناك من يعلن ترحيبه بانقلاب كهذا لأنه يزيل استبداد رئيس لم يصل إلى الحكم بشرعية شعبية نزيهة، وكذلك كان والده عمر بونغو الذي حكم مدة 42 عامًا متواصلة، والجيش الذي انتظر إلى ما بعد الانتخابات ليصحح وضعًا خاطئًا بقوة الدبابة، لماذا لم يتفاهم معه أو يجبره على عدم الترشح ويطوي صفحة هذه العائلة، ويهيئ الأجواء لانتخابات حرة شفافة بقوة السياسة؟
لا أظن أن الجيش لم يكن قادرًا على ذلك، فالجيوش متنفذة وبمقدورها أن تعمل على التصحيح دون تدخل مباشر وفجّ منها في السياسية واختيار الحكام وتسيير المؤسسات.
الضباط لا يتركون الحكم
هل يعتقد أحد أن ضباط الغابون سيتركون الحكم للمدنيين؟ لن يحدث هذا، ولم يحدث ذلك في أي انقلاب، باستثناء سوار الذهب في السودان، فالسلطة غايتهم للهيمنة والاستحواذ والاحتكار.
الانقلابيون في كل بلد يطمئنون وهم يعتدون على كل ما هو حق طبيعي للناس في تقرير مصيرهم ما دامت الشعوب تفتقد الوعي وتستسلم لواقع مرير دون تغييره بوسائل سلمية، وما دام التناحر والكراهية والمراهقة السياسية تضرب النخب وتكشف عن عدم إيمانها بالديمقراطية وخياراتها وانقلابها عليها مثلما يفعل الضباط تمامًا، وما دامت المؤسسات تتحول إلى إقطاعيات كل واحدة منها لا تعنيها مصالح الوطن والشعب وبناء قواعد الحكم الرشيد، إنما تهتم بمصالح أعضائها والمنتمين إليها وجمع المنافع والامتيازات.
كل انقلاب عسكري، وكل حكم مطلق، أيًّا كانت خلفيته، هو عدوان وشر مطلق ولا تبرير له.