“الأحمر” لا يليق بها.. انقلابات بيضاء في “القارة السمراء”

مظاهرة لتأييد الانقلاب في الغابون (رويترز)

 

 

ظهر اللون الأحمر غزيرًا مع الانقلابي الأول في إفريقيا سنة 1963 تعبيرًا عن دموية التحرك، وعنف المواجهة، لكن اللون الأبيض تسلل بهدوء عبر سنوات وصولًا للانقلابي الأخير، دون قطرة دم واحدة، بعد مرور 60 عامًا، كانت كفيلة بالتحول بين اللونين في الانقلابات التي شهدتها القارة السمراء.

فبينما فشل الرئيس “سليفانوس أوليمبيو” في تسلق سور السفارة الأمريكية التي حاول اللجوء إليها سنة 1963 في جمهورية توجو، وسقط صريعًا، بعد إطلاق النار عليه خلال أحداث أول انقلاب في إفريقيا شهده البلد الواقع غرب القارة، قاده العريف “إيمانويل بودجلي”، وأدى لأعمال عنف وحمامات من الدم، فإن الجنرال “بريس أوليغي نغيما” ظهر مرفوعًا في الهواء على أكف عسكريين أعلنوا اختياره رئيسًا بعد أن نفّذوا آخر انقلاب في القارة السمراء وقع دون دماء في 30 أغسطس الماضي في جمهورية الغابون الواقعة غرب إفريقيا أيضًا.

كان السلاح والدم والقتل والصراع العنيف والتصفية خارج القانون والاغتيال والإعدام هو أول ما يتبادر للذهن عند ذكر كلمة “انقلاب”، لكن ما يعرف بـ”الانقلاب الأبيض”، الذي لا تراق فيه قطرة دم واحدة أصبح سمة جديدة في القارة التي شهدت عشرات الانقلابات منذ بدء حركات التحرر والاستقلال في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

الانقلاب الذي كان خبرًا قابضًا للقلوب، ومثيرًا للتوجس، ومدعاة للخوف بالنسبة للمواطنين في أي دولة أصبح احتفالًا كرنفاليًا ومدعاة للفرح والتعبير عن التأييد بشتى الطرائق، من التظاهر إلى الغناء، مثلما حدث في آخر انقلابين شهدتهما إفريقيا خلال أسابيع في النيجر والغابون.

لم يعد الأمر مزعجًا مثلما كان قبل عقود، بل أصبح خبرًا مبهجًا يستحق الفرح من طبقات شعبية لها حسابات أقل، ومعاناة أكبر.

تفسير الأسباب

تقليديًا.. كان الانقلاب يتم بتحريك قوات للسيطرة على مراكز القوة أو ما يعرف بمفاصل الدولة، مثل قصر الرئاسة وقيادة الجيش ومبنى الإذاعة والتليفزيون والبنك المركزي، وكانت القوى الرافضة للانقلاب تقاوم بشراسة، مخلفة بحورًا من الدم نتيجة انتشار العنف، وكانت أسباب الانقلاب تدور حول اختلاف الرؤى في إدارة مرحلة ما بعد الاستعمار والحصول على الاستقلال، أو بسبب ذلك التنافس البغيض على السلطة والنفوذ وحب الزعامة والسيطرة على الثروات.

أما في السنوات الأخيرة، فقد اختلفت الأسباب بعد انتهاء فترة التحرر الوطني، واستقرار الدول التي كانت مستعمرات سابقة تخلصت من الاحتلال شكلًا وبقيت مستعمرات في الواقع ليس لها من الاستقلال سوى نشيد يسمع وعلم يرفع في ساحات الرياضة أكثر من محافل السياسة.

تغيرت أسباب الانقلابات وتنوعت، إذ يكفي أن يكون الرئيس فاسدًا أو متهمًا بالفساد، أو أن يكون وارثًا للحكم أو ينوي أن يورثه لأحد أبنائه أو مرتبطًا بقوى أجنبية مع شعور متنام بالغضب، من علاقته واستقوائه بالخارج، أو منتهكًا للدستور أو عابثًا بالقانون، أو لاهيًا بالمؤسسات، أو مريضًا أو معزولًا عن شعبه، أو زعيمًا لـ”مافيا” تحكم بالحديد والنار، وقبل هذا وبعده أحوال اقتصادية سيئة، بين فقر مدقع وجهل مقيم بين المواطنين، فيما ترتع النخبة وترفل في رغد العيش.

تفسر الأسباب السابقة لماذا أصبحت الانقلابات “بيضاء” دون نقطة دم أو اشتباك مسلح، دون عنف أو فتن؟ ولماذا لم يعد هناك من يريد أن يتحمل عبء الدفاع عن رئيس فقد شعبيته وتورط في أنماط مبتكرة وأخرى تقليدية من الفساد، واستغلال النفوذ ووطء القانون بالأحذية؟ ولماذا أصبح الانقلاب سهلًا في بيئة مهيئة للتغيير، راغب فيه بأي طريقة بعد أن أصبحت المنايا هي السبب الأول للتغيير، وفق إرادة السماء، فيما توارى صندوق الانتخابات كأداة للتغيير، وأصبح مجرد زخرف للنظام يقدسه حكام إفريقيا وربما عبدوه كعجل من ذهب، يدورون حوله -بتشجيع غربي- دون أن يملك لهم ضرًا أو نفعًا.

كان نهب ثروات البلاد الإفريقية كفيلًا بأن يُفقد حكامها التعاطف من أصغر جندي في النظام، إلى القيادات الكبرى القابضة على جمر حب الوطن.

أصبح استقلال بلاد إفريقية كثيرة مجرد وسام قديم معلق على الصدور، وكان استقلال القرار بالتبعية “رجس” من عمل الأوطان، تجنبه الرؤساء العملاء، وجدارًا انقض ولم يجد من يتطوع ليقيمه.

ورغم الثروات والكنوز الطبيعية التي تذخر بها إفريقيا إلا أن قوى الاستعمار القديم مارست دور “مصاص الثروات”، وامتلأت خزائن أوروبا بينما خوت أمعاء الأفارقة، وانتشر الجهل والمرض بينهم في الوقت الذي تعلو فيه صروح العلم والمشافي الفخيمة في القارة العجوز.

صارت بلاد المستعمرين التي أثرت في حساب أوطان الأفارقة الوجهة المفضلة، لمن تيسر حاله، وامتلأت جيوبه، فصعد على درج الترقي اجتماعيًا وماليًا، وأصبح من القادرين على العلاج والتعليم في بلاد الغرب التي يتباهى رجالها بالقبعات وتنتشي نساؤها بالتنانير والعطور، وتحول المستعمر القديم لمخلب سميك في عنق البلاد المثخنة بجراح الفساد والفقر.

نخب القوى الاستعمارية

تعلقت النخب الحاكمة في معظم دول القارة بأطراف التبعية للقوى الغربية، وأصبح الحديث عن الديمقراطية مملًا وسخيفًا بعدما تحولت لمجرد صوت للدعاية بلا صدى واضح ينعكس إيجابًا على أحوال السكان.

لم يكن غريبًا أن ترعى القوى الاستعمارية الفاسدين الجدد بعد أن استنفدت أغراضها من الفاسدين القدامى، وكان طبيعيًا أن حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية واحترام القانون صارت أراجيح تعلو وتهبط وفق المصالح التي لا بد لها أن تتصالح، مطيحة بأي مبدأ، وطاعنة لأي غاية نبيلة، قد تقود إلى ضوء في نهاية نفق البلاد التي أظلمت بأحوالها رغم الشموس المطلة في سماواتها الصافية.

في مؤشر الفساد لعام 2022 خلت المراكز الخمسون الأولى من أي دولة إفريقية باستثناء دولتين هما “سيشل” أول دولة إفريقية في مكافحة الفساد حيث حلّت في المركز 23 بينما جاءت “بوتسوانا” في المركز 35 على مستوى 140 دولة.

هل هي مصادفة أن “سيشل” التي احتلت المركز الأول في قارة إفريقيا في مؤشر مكافحة الفساد بمجموع درجات 70% لا تقع في يابسة القارة السمراء، وهي مجموعة جزر في المحيط الهندي تقع أمام الساحل الشرقي لقارة إفريقيا.

وفي مؤشر سيادة القانون للعام الماضي وفق (World Justice Project) تظهر أول دولة إفريقية في المركز 42 وهي رواندا التي وقعت فيها أحد أسوأ عمليات الإبادة الجماعية في التاريخ، خلال تسعينيات القرن العشرين، التي راح ضحيتها ما يقرب من 800 ألف قتيل غير عشرات الآلاف من المصابين جسديًا والمشوهين نفسيًا، فيما يعيش 40% من سكانها تحت خط الفقر.

وبينما تستمر معاناة رواندا من آثار التطهير العرقي، فإنها تحل في المركز الـ27 كأول دولة إفريقية وفق معيار النظام والأمن، فإن ناميبيا الواقعة في الجنوب الإفريقي تقع في المركز الـ45 وفق معيار توفر الحقوق الأساسية للسكان، وهي بذلك الدولة الأولى في إفريقيا.

تزداد إفريقيا فقرًا، ويزداد الغرب ثراء، وتقع فرنسا في مرمى اتهامات الأفارقة بطول القارة وعرضها، كدولة أوروبية ذات ماض استعماري قديم، تسببت في نهب ثروات بلدان إفريقية كثيرة، لكنها ما زالت تنظر باستعلاء وغرور للبلاد التي كانت تحتلها، وما زالت تحتفظ بمواطئ أقدام فيها، وفرنسا ليست وحدها لكنها النموذج الصارخ للاستعمار الجديد في إفريقيا.

ويجسّد الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” نظرة الغرب الفوقية لقارة إفريقيا عندما قال في إحدى خطبه “لولا فرنسا ما كان هناك مالي ولا النيجر ولا بوركينا فاسو”، ناسيًا أنه لولا ثروات هذه البلاد لكانت بلاده أقل شأنًا، وأضعف جندًا.

ينظر المحللون لانقلابات عدة وقعت خلال العامين الماضيين على أنها ضد النفوذ الاستعماري القديم وخاصة فرنسا، ويلفت التأييد المحلي لعزل الرؤساء فاقدي الشعبية النظر إلى حالة الغضب ضد القوى الغربية عامة وفرنسا خاصة.

الملاحظة المهمة أن الغضب أصبح يعبّر عن نفسه بصورة أسرع وأوضح، إذ يكفي الآن أن يدخل أي عسكري مهما كانت رتبته ليسيطر على الرئيس تحت التهديد في دقائق دون أن يجد الرئيس من يدافع عنه، أو يتعاطف معه، قبل إذاعة بيان الانقلاب أو بعده.

المزعج للرؤساء أن معظم الانقلابات تتم عن طريق الحرس الجمهوري نفسه، في عملية هادئة وسريعة أصبحت تتمتع بالتأييد الشعبي كما في آخر انقلابين، لكن الأغلب أن أي رئيس سيواجه الانقلاب في إفريقيا لن يضطر إلى الهروب أو تسلق أسوار أي سفارة للجوء إليها، كما فعل الانقلابي الأول قبل ستة عقود، فلم يعد عنق الرئيس مطلوبًا.

بات الانقلابيون من ذوي “الأيادي البيضاء”، فقد قال قائد الانقلاب في الغابون “نغيما” إن الرئيس المخلوع “عمر بونغو” سيحتفظ بكل حقوقه، وإذا علمنا أن قائد انقلاب الغابون الذي أصبح رئيسًا لفترة انتقالية غير محددة هو ابن عم الرئيس المخلوع “بونغو”، فسندرك أن عهد الانقلابات الدموية الحمراء أصبح تراثًا، وأننا دخلنا في مرحلة الانقلابات البيضاء، مما يعني مع تصاعد الغضب ضد الغرب أن إفريقيا بصدد انقلابات أكثر ودماء أقل.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان