خطوة للخلف.. رعب الانقلاب العسكري

يظل الحاكم يتشبث بالحكم ويمارس أشد أنواع الديكتاتورية والاستبداد على شعبه حتى يفاجئه الشعب بالغضب والثورة عليه، أو يفاجأ بأحد أفراد القوات المسلحة ممن يسميهم أبناءه أو ممن حاول استمالتهم كثيرًا بالمال والإغراء بالانقلاب عليه، ليجد نفسه داخل زنزانة في سجن أو قيد الإقامة الجبرية انتظارًا لمحاكمته.
في بعض الدول يستخدم الحاكم قوات الشرطة أو قواته الخاصة ليرهب الشعب فلا يسمح لأحد بمناقشته، أو الاعتراض على قراراته والتعبير عن رأيه بحرية، هكذا يظن أن قبضته قد أحكمت حكمه على البلاد، فيجيؤه الانقلاب في غالب الأحيان من مأمنه.
يقولون في إفريقيا حيث بلاد الثروات الكثيرة والفقر الوفير إن من يقوم في الصباح يتولى الحكم (اللي يبدر في المجيء يبقى الملك) تعبيرًا عن كثرة الانقلابات العسكرية، ففي عام ونصف العام وقعت خمسة انقلابات عسكرية في غرب إفريقيا ناهيك مما يحدث في السودان الآن، ولا ندري ماذا تحمل الأيام في دولة اشتهرت بالانقلابات العسكرية؟ خمس دول هي مالي وبوركينا فاسو وغينيا، ثم كان الشهر الماضي انقلاب النيجر، أعقبه الانقلاب الأخير في الغابون الذي أدى قائده بريس أوليغي أنغيما القسم الجمهوري أول أمس رئيسًا لفترة انتقالية غير محددة المدة حتى الآن، وقد شهدت إفريقيا 200 انقلاب عسكري خلال العشر سنوات الأخيرة، بما يعادل انقلابًا كل 55 يومًا.
جاءت الانقلابات العسكرية في دول غرب إفريقيا التي وقعت خلال العام الماضي ونصف العام الحالي بقيادة ضباط من الصف الثالث في جيوش الدول الخمس، وميّز القادة الخمسة صغر أعمارهم، كما وافق تلك الانقلابات ترحيبًا شعبيًا كبيرًا، وكانت لغة الخطاب مؤثرة في الشعوب الخمسة خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع فرنسا الدولة التي كانت تحتل هذه الدول من قبل التحرر، التي تعيش على ثروات هذه الدول بما تستنزفه من ثرواتها التي تقوم عليها نهضة فرنسا وتقدمها، فيما بدا أنه تحرر حقيقي من الاستعمار الذي يذهب ويترك عملاءه يحكمون باسمه.
خطوة للخلف
ثلاث دول في غرب إفريقيا قامت خلال الأيام الماضية بقرارات عدة خوفًا من انتشار موجة الانقلابات العسكرية إليها، فقد أقلقت حركات الجيوش الانقلابية أو الثورية رؤساء الكاميرون والسنغال ورواندا، فقاموا باتخاذ تدبير عدة أمنية وسياسية خوفًا على عروشهم وكراسي الحكم.
فها هو رئيس السنغال ماكي سال الذي يحكم السنغال منذ عام 2012 يعلن عدم نيته في الترشح لفترة رئاسية ثالثة العام المقبل، وذلك بعد سلسلة من أعمال العنف شهدتها بلاده عقب الحكم بسجن عثمان سونكو أحد زعماء المعارضة في السنغال الذي كان يعتزم الترشح في انتخابات الرئاسة 2024، وقد اتهم سونكو بإفساد الشباب، وهو الحكم الذي يهدده بالحرمان من الترشح للانتخابات المقبلة.
الرئيس الكاميروني بول بيا قام أيضًا بإجراء تغييرات كبيرة في صفوف القوات المسلحة في بلاده وعيّن قيادات جديدة لها في محاولة لتجنب الانقلاب العسكري عليه، الرئيس الكاميروني يكمل عامه الأربعين في الحكم العام المقبل، ويبلغ من العمر 90 عامًا فهو من مواليد 13 فبراير/شباط 1933، تسعون عامًا من العمر وأربعون عامًا في السلطة قبلها كان رئيسًا للوزراء ولم يشبع منها، ولم يتخل عن كرسيه ليرتاح، فسطوة السلطة والحكم ونشوتها لا يملها الديكتاتور.
الرئيس الرواندي بول كاغامه الذي يبلغ من العمر 66 عامًا، ويحكم رواندا منذ عام 2000 حتى الآن، فقد قام بإبعاد 83 ضابطًا كبيرًا من قيادات القوات المسلحة، وستة من القيادات المتوسطة، وسرح ما يقرب من 160 عسكريًا، وعيّن بدلًا منهم في محاولة لتأمين جانبه من ناحية القوات المسلحة حتى يوقف طوفان الانقلابات العسكرية المنتشر في غرب إفريقيا عن بلاده، هكذا يحاول الجميع النجاة من المحاكمات والإقامات الجبرية التي تنتظرهم نتيجة تشبثهم بالحكم لسنوات طويلة.
ليست شرًا دائمًا
لا أحسب التغيير الشعبي ثوريًا كان أو انقلابيًا عسكريًا بزيه، فلا يمكن اعتبار أي انقلاب عسكري هو شر مستطير دائمًا، فأغلب دول العالم تحررت في منتصف القرن الماضي بقيادات عسكرية، وقاد العالم نحو المستقبل قيادات عسكرية من شارل ديجول، أيزنهاور، إلى جمال عبد الناصر الذي قاد تحرر مصر وتحرر إفريقيا وصار زعيمًا عالميًا ورمزًا لتحرر العالم كله من الاستعمار، وليس هذا وفقط، فقد بنى معظم دول العالم الحديث قادة عسكريون، بل أننا نفخر برجال عبر التاريخ حققوا لهذه الأمة انتصارات وجعلوا من الأمة العربية والإسلامية قائدة للعالم وسيدته، وقاد انتصاراتنا في عهود الأمة الإسلامية الذهبية قادة عسكريون حققوا سيادتها على بحار العالم ومحيطاته.
لون الزي ليس هو معيار نجاح الدول والأمم في التغيير، فكما هناك عسكري بطل وزعيم، كان هناك عسكر خانوا أمانة بلادهم وسلموا مفاتيح الوطن لأعدائه، القيمة الحقيقية هنا بما يحمله عقل القائد ووجدانه للتغيير الثوري أو التغيير السلمي الانتخابي، ماذا يحمل هذا القائد لبلاده؟ كيف قرأ تاريخ أمته ووعى جغرافيتها؟ بنية مجتمعه وتوزيع ثرواتها وعدالة توزيعها، كيف قرأ خريطتها الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، والسياسية؟
لذا المواقف لا تؤخذ بألوان زي من يقومون بالتغيير، فها هو إبراهيم تراوري في بوركينا فاسو يقود حركة ثورية يعدها الكثيرون نقطة تحرر للغرب الإفريقي من براثن الاستعمار الفرنسي، ويعلن أن ثروات إفريقيا للأفارقة الذين ذاقوا الفقر والجهل والمرض في مقابل تقدم فرنسا ونهضتها على حساب ثرواتنا.
إذا أفلح تراوري ورفاقه من شباب غرب إفريقيا في بناء دولهم، فما فائدة نوعية زيهم حينئذ عسكريًا كان أو مدنيًا؟ إذا امتلك ورفاقه من قادة الغرب الإفريقي رؤية سياسية لدولهم ولدول إفريقيا جميعًا وكوّنوا جيلًا من ثوار عالم الجنوب فما قيمة الزي إن كان عسكريًا، مطربشًا، معممًا، أو زيًا حديثًا؟ القيمة هنا فيما يحمل عقول أصحاب الملابس وليس في الكاكي أو غيره.