الجرافات تهدم تاريخ أمة.. لصالح مَن؟!

لم يعش المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي -أهم مؤرخّي مصر في العصر الحديث- جميع أحداث كتابه الشهير “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” كلها، فقد ولد عام 1753 وتُوفي عام 1825، وما عاصره لتأليف كتابه ومشاهدته للأحدث لم يتجاوز 50 عامًا تقريبا، أما معظم الأحداث السابقة فقد استقاها كما قال “من النقل من أفواه المشايخ المسنّين، وصكوك دفاتر الكتبة والمباشرين، وما انتُقِش على أحجار ترب المقبورين”، وهذا يؤكد أن الجبّانات والقرافات والمقابر مصدر مهم من مصادر التاريخ عند الأمم.

تجريف المقابر والأضرحة

ولكن مَن يطالع ما يحدث في مصر الآن من هدم وتجريف للمقابر، والأضرحة، والقرافات، والمآذن، يؤكد أن هناك شيئًا في أعلى الرأس قد توقف لدى من يقومون بهذا الحملة، جعلهم لا يشعرون بالمسؤولية اتجاه ما يفعلونه من تجريف لتراث الأمة؛ بسبب عدم التخطيط السليم، والاستفادة من عقول وخبرات العلماء المصريين -وما أكثرهم!- في جميع المجالات؛ من أجل توسعة محاور للطرق وغيرها.

وقد أثارت صور الجرافات وهي تهدم المقابر الأثرية في الإمام الشافعي حفيظة وغضب الكثيرين خاصة الشباب الذين أطلقوا مبادرة لتوثيق صور هذه الأماكن قبل هدمها وتجريفها، فكانت مبادرة “طالع إزالة”؛ لتوثيق تاريخ بلدهم، ومنع جرائم تجريف آثار الشعب، ولاقت المبادرة حضورًا كبيرًا في مقابر الإمام الشافعي؛ لتوثيقها قبل التفكيك رغم حرارة الجو، وكثرة المشي.

والغريب حقًّا هو موقف المثقفين المصريين من تجريف آثار مصر وتاريخها، فلم نسمع لهم رِكْزًا وكأنّه قد ضُرب على آذانهم، فلا نسمع لهم أدنى اعتراض، عكس ما فعلوه عندما تولى الدكتور علاء عبد العزيز وزارة الثقافة في عهد الرئيس محمد مرسي؛ حيث اعتصموا في مبنى وزارة الثقافة، ومنعوه من ممارسة عمله، بحجة أنه من الإخوان، وهو لم يكن منهم بالطبع؛ ولكن كان من خارج حظيرة وزارة الثقافة، كما سماهم وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني في عهد الرئيس المخلوع مبارك.

هدم المآذن

إن مدينة القاهرة القديمة “مدينة الألف مِئذنة” -كما يُطلق عليها- تشهد حاليًّا تحديًا كبيرًا يهدد جزءًا من هُويتها البصرية المستقرة منذ نحو 700 سنة، من حيث هدم المقابر التاريخية والتراثية لبعض رجال الدين، وشخصيات أخرى مشهورة، وكذلك التغيير العشوائي في الأضرحة والمساجد.

وقد طالت عملية التغيير المآذن التاريخية؛ حيث تم تفكيك مئذنتي قوصون، والتربة السلطانية، وقد بُنيتَا في القرن الـ14 الميلادي خلال عصر المماليك البحرية، وتعدّان من أهم العلامات البارزة في العمارة المملوكية في العالم؛ حيث تم استخدام صورتيهما على طوابع البريد، وعُملات ورقية في العصر الملكي؛ مما جعلهما جزءًا أساسيًّا من معالم المدينة.

ويعدّ تاريخ تشييد المآذن في العصر المملوكي البحري لافتًا للانتباه؛ لأنها تُظهِر مدى استدامتها عبر الزمن، حيث تحمّلت الزلازل، وتغيرات المناخ، وتلوث البيئة الناتج عن وسائل النقل الحديثة، وغيرها من التحديات.

وللأسف، اتُّخذ قرار تفكيك هذين المَعلمين التاريخيين؛ من أجل مشروع تطوير طريق صلاح سالم، على الرغم من النداءات المتكررة والصرخات التي أطلقها المختصون والمهتمون، مطالبين بالتراجع عن هذا التخطيط المزمع تنفيذه، وبحث بدائل أخرى تجنّب التدمير أو النقل.

ومع ذلك؛ فإن السادة المتخذي القرار رفضوا حتى سماع أي اعتراضات أو نقاشات حول هذا الموضوع، وهذا يزيد من حجم الغموض حول مصير هاتين المئذنتين الفريدتين، ولا يزال غير واضح هل سيتم نقلهما وإعادة بنائهما في مكان آخر، أم سيُعاد بناؤهما في مكانهما بعد انتهاء المشروع؛ حيث تبقَى الصورة مجهولة حتى الآن!

ولم يراعِ متخذ القرار فتاوى رجال الدين السابقة، ومنهم الشيخ حسونة النواوي، شيخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، بأنّ أرض الجبانات والمقابر أرض وقف، لا يجوز التصرف فيها بأي صورة سوى دفن أموات المسلمين، ولا يجوز بيعها، أو تقسيمها، أو الانتفاع بها إلا فيما وُقِفت عليه.

 ترميم المقابر اليهودية

إن ما يحدث حاليًّا يطلق عليه في الدراسات التاريخية وتراث الفنون اسم ظاهرة “أيكونوكلازم”، وهي تمثل محو الرموز البصرية لعصور سابقة؛ بهدف ترسيخ شرعية الصور والرموز الجديدة، أو رفع ذاكرة فوق ذاكرة أخرى في ثقافة متعددة التواريخ. وعادةً ما تكون المدن القديمة أكثر تعقيدًا؛ حيث تكتب نصوص متعددة بعضها فوق بعض؛ ما يجعلها تعيش بأكثر من روح ونبض.

والسؤال هنا: لماذا يعدّ البعد البصري مهمًّا؟ ولماذا للحجر قيمة؟ السبب في ذلك هو أن الحجر يمثل دلالة على التواريخ والتأثير، فالفنون والرموز المحفورة على الحجر تعكس تصورات وعقائد العصور السابقة، وتمثل موروثًا ثقافيًّا مهمًّا.

لذلك، في بعض الأحيان نُقلت المعابد والمباني الأثرية من مكان إلى آخر بأي تكلفة؛ ولكن الآن يتم هدم القبور التي تمثل قطعًا فنية رائعة، وشواهد لعصور كاملة، تشير إلى وجود شخصيات بارزة، وعلماء، ورواد، ورموز.

في المقابل، تم افتتاح مقابر ليشع ومنشا اليهودية بعد ترميمها في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، وكذلك تم إدراج 60 مقبرة يهودية ضمن قائمة الآثار في الإسكندرية في ديسمبر/ كانون الأول 2018، في الوقت الذي تُزال فيه المقابر في السيدة نفيسة، والإمام الشافعي، بما تحتويه هذه المقابر من رموز دينية ووطنية.

هذا المشهد الواضح ليس مجرد صدفة، أو نقص في إدارة التراث الثقافي والتاريخي؛ بل هو قرار مدروس يستهدف محو المعالم والتواريخ لصالح معالم وتواريخ أخرى، وذلك عبر تحويل الصور والرموز القديمة لصالح صور ورموز جديدة، سواء كانت هذه الصور قديمة أو حديثة.

ويبقى السؤال: لمصلحة مَن تُغير صورة القاهرة القديمة ومعالمها التاريخية وسط تخاذل المثقفين؟!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان