التأييد الشعبي للانقلابات.. ظاهرة إفريقية فريدة

 

 

التأييد الشعبي للانقلابات في القارة الإفريقية أصبح ظاهرة عامة، من مصر وإفريقيا الوسطى، مرورًا بمالي وبوركينا فاسو، حتى النيجر والغابون، إلى غير ذلك من انقلابات نجحت وأخرى أخفقت، الظاهرة واحدة، السلوكيات متشابهة، ما أن يستيقظ الناس على أنباء استيلاء العسكر على الحكم وعزل الرئيس المنتخب، إلا وتتعالى الهتافات وصيحات التأييد، تكتظ الشوارع بالمناصرين، يتحول إعلام الأمس المدافع عن كل ما كان يفعله الرئيس إلى ساخط على سيرته وسيرة أجداده وذريته من بعده، تتوالى بيانات التأييد من القوى السياسية، والتسبيح بحمد العسكر ووطنية العسكر ودوافع العسكر “النبيلة”.

بالتأكيد نحن أمام ظاهرة جديرة بالدراسة، من المهم الإجابة عن أسئلة أراها متشابكة، لماذا خرج المواطنون في تركيا يدافعون عن الشرعية؟ بينما يخرجون في العواصم الإفريقية للترحيب بالخروج على الشرعية، لماذا لا ينقلب العسكر على أنظمة الحكم في الدول الأوروبية؟ بينما تخشى الأنظمة المنتخبة في إفريقيا من انقلابات العسكر، حتى وصل الأمر إلى انقلاب العسكر على العسكر في بعض البلدان، لماذا يسعى المواطن الإفريقي إلى الاستقلال وينشد التقدم؟ في الوقت الذي يبارك فيه حكم العسكر، رغم حالة الفقر والبؤس والتخلف التي عاشها ويعيشها تحت وطأتهم.

النضج السياسي

لا يجب أن ننسى ونحن نستشهد بالنموذج التركي، أن تركيا شهدت انقلابات عسكرية عديدة على الديمقراطية وعلى نظام الحكم المنتخب، كان الشعب يلتزم الصمت في كل مرة، إما خوفًا من العسكر، وإما إيمانًا بأنهم الأجدر بالحكم من أصحاب الأيديولوجيات المختلفة، إلا أن محاولة انقلاب 2016، التي كانت على شفا تحقيق مبتغاها، فوجئت بموقف مختلف لم يكن أبدًا في الحسبان، حيث تصدى المواطنون هناك للمدرعات والدبابات بأجسادهم، دفاعًا عن الشرعية، وإيمانًا بالديمقراطية، التي سددوا من أجلها ضريبة كبيرة من الظلم والقهر وأحيانًا الدم عقودًا عديدة.

هل يمكن القول إن هذا القدر من النضج السياسي والثقافي الذي وصل إليه المواطن التركي كان هو السبب في ذلك التطور السياسي الذي لم يصل إليه المواطن الإفريقي؟ وهو في الوقت نفسه ما زال أسيرًا للإعلام، بل والاحتلال الغربي في بعض الأحيان، وخاصة الفرنسي في صور مختلفة، هل يمكن القول إن ذلك هو هدف الاحتلال من مساعيه في استمرار حالة التغييب هذه، بمزيد من نشر الجهل والفقر بين المواطنين الأفارقة، ما دامت الخزينة الغربية تحقق استفادة منقطعة النظير من هذه الحالة، أم أن ما يجري في القارة الإفريقية الآن هو بمثابة مخاض للوصول إلى حالة النضج التركية.

يجب أن نعترف ونحن ندين أي تدخل للعسكر في شؤون الحكم في أي بلد وفي أي قارة، أن هناك بعض الحالات أو الأنظمة، وربما معظمها، خصوصًا في القارة الإفريقية، قد بلغت من السوء والتردي والظلم والديكتاتورية، ما تنوء بحمله الجبال، وهو ما يجعل المواطن يرحب بأي تغيير، على يد أي قوة عسكرية كانت أو مدنية، بل وصل الأمر إلى الترحيب بالتدخل الأجنبي في بعض الحالات، نتيجة فقدان الثقة في الجهود الداخلية، أو نظرًا لشراسة النظام الحاكم في التعامل مع معارضيه، ويكفي أن نذكر أن الرئيس الغابوني علي بونغو الذي أطيح به في آخر الانقلابات الإفريقية، قد أمضى في الحكم 14 عامًا، في أعقاب 42 عامًا أمضاها والده في الحكم، وكان يعاني من حالة صحية سيئة للغاية، إلا أنه كان يسعى إلى الاستمرار في الحكم.

إلا أن مثل هذه الانقلابات وفي ظل مثل هذه الأوضاع يجب أن تفتح النقاش حول قضية مهمة تتعلق بمدى أحقية دول الجوار أو غيرها من الدول والمنظمات الدولية التدخل في الشأن الداخلي لهذه الدولة أو تلك؟ بدعوى إعادة النظام الشرعي، على الرغم من ذلك الترحيب الشعبي الكبير الذي يؤازر -كما أشرنا- المنقلبين هنا وهناك، وهل من حق أي دولة فرض إملاءات على شعب دولة أخرى؟ أو من حق أي منظمة (كما تفعل الإيكواس حاليًا مع شعب النيجر) فرض إملاءات من أي نوع لمجرد أنها عضو في تلك المنظمة؟ مع الوضع في الاعتبار أن هذه الدول التي تشجب وتدين ربما كان النظام السياسي فيها أكثر سوءًا من حيث الحريات وحقوق الإنسان، وربما كانت أكثر خضوعًا للغرب وتبعية له.

انقلابات بيض

وما يثير الانتباه في بعض الانقلابات الحاصلة في إفريقيا، هو كونها انقلابات بيضًا، كما في الحالتين الأخريين بكل من النيجر والغابون، لم تحدث مواجهات، لم تسفك دماء، لم يكن هناك ضحايا، على عكس الحالة المصرية مثلًا، وهو الأمر يمنحها دعمًا شعبيًا فوريًا، كونها لم تنل من أمن المواطن وأمانه، وعلى عكس الحالة السودانية أيضًا، التي أغرقت البلاد في حالة من الفوضى وسفك الدماء والنزوح والدمار دون أي أهداف واضحة، اللهم إلا عسكر ينقلبون على عسكر، لتحقيق مصالح شخصية تتعلق بالسيطرة على مناجم ذهب هنا، أو الانفراد بحكم أقاليم بعينها هناك.

أعتقد أن الأمر في القارة الإفريقية سوف يظل رهنًا بمستوى التعليم، مستوى الثقافة، مستوى التطلعات، والأهم من ذلك إرادة الشعوب، دون الاعتماد على ما تسمى بالنخب السياسية، التي أثبت الواقع غيابها، كما أثبتت التجارب أنها الأكثر خضوعًا والأكثر انبطاحًا، إما مقابل فتات تتلقاه من الأنظمة القمعية، وإما مقابل الكثير مما تتلقاه من أنظمة خارجية تحت عناوين عديدة، جعلها لا تلقي بالًا بمصالح الوطن والمواطنين، وهو الأمر الذي أضر كثيرًا بحاضر شعوب العالم الثالث ومستقبلها، التي وجدت نفسها، بلا حول ولا قوة تصفق للديكتاتورية، تهلل للقمع، تؤدي التحية لأولئك الذين نهبوا ثرواتها، سواء كانوا محتلين أو من بني جلدتهم، ذلك أن النتيجة واحدة، والشبه كبير، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان