انتفاع اليتامى بفوائد أموالهم البنكية في المجلس الحسبي

بعد مقالي السابق، عن كيفية سداد الحقوق المالية عند التضخم، ذلك أن قيمة العملة تنخفض في بعض البلدان بشكل كبير، مما تصبح قيمتها عند سداد الحقوق المالية لا تساوي القيمة السابقة نفسها، سواء بانخفاض كبير، أو انخافض غير معقول، فقد وردني سؤال متكرر أيضا مع جل حالات اليتامى في بلداننا العربية، وهو سؤال يتعلق بملايين الأشخاص، ومليارات العملات حسب عملة كل بلد، حين يموت الأب، ويترك تركة للورثة، ويكون عدد منهم في سن صغير، فحفاظا على أموالهم توضع الأموال فيما يسمى في مصر -مثلا- المجلس الحسبي، ويضع المجلس الحسبي المال حفاظا عليه في أحد البنوك باسم اليتيم أو بلغة القانون (القاصر)، وغالبا يكون من البنوك التي تتعامل بالفائدة الربوية.

وهذه الحالات التي نتحدث عنها في مقالنا، ليست حالة فردية تتعلق ببعض الأفراد، بل حالة تتعلق بعدد ليس قليلا من الأشخاص في بلداننا، فبناء على عدد اليتامى في أي بلد، سنجد كل يتيم لم يبلغ السن القانوني الذي يحق له به تسلُّم أمواله، توضع أمواله أو ميراثه تحت رقابة المجلس الحسبي، فيكثر السؤال هنا عن حكم هذه الفوائد التي يجدها اليتيم في حسابه، وأصل المال أصبحت قيمته متدنية جدا نظرا لطول مدة المال في البنك، فهل يحق له الانتفاع بهذه الفائدة أم لا؟

تجربة شخصية

وقد مررت بتجربة شخصية بنفس هذا السؤال وحالته، فقد مات والدي وعمري عشر سنوات، وكنت أكبر إخوتي، ولأنه توفي في حادث، فقد حكمت المحكمة بمبلغ تعويض كان بسيطا جدا، وظل المال في البنك بأمر المجلس الحسبي، وعندما بلغت السن القانوني (21 عاما) ذهبت لتسلم المبلغ، فوجدت الفائدة التي تكونت عبر عشر سنوات، تكاد تصل إلى ربعه أو ثلثه، ولكنه كان وقت أن وضع له قيمة شرائية أعلى، ووقتها كنت أدرس في جامعة الأزهر، والرأي الفقهي في فوائد البنوك معروف ومشهور، وهو ما كنت أقتنع به وما زلت بحرمته، فعملت بنص الآية الكريمة: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279).

قررت أن آخذ رأس المال فقط، أما الفائدة فقررت التخلص منها، بناء على فتاوى المشايخ، وقررت أن أعطيها إلى صديق كان يتزوج وكانت حالته المادية متعسرة، دون أن أخبره بأصل المال، لأنه لو علم أنه مال يتطهر منه، لحرم عليه، ونازعتني أمي في هذا الرأي، وناقشتني بفطرتها وخبرتها في الحياة، ولكني تمسكت بما أعرفه من رأي فقهي، كانت أمي ترى أني يتيم وفقير، وهذا مال زهيد، ولو أننا اشترينا وقتها بهذا المبلغ أي قطعة أرض صغرت أم كبرت، لكان أنفع وأحفظ للمال، وخوفا مني أن نكون من المترخصين في ذلك فرفضت، فقالت لي: أعطه لي، وأنا بطبيعة الحال أربي أيتاما فأنا أحق به، فرفضت أيضا، ابتعادا عن الشبهة.

يجوز انتفاع اليتيم بفوائد ماله

وظل هذا السؤال يرد إليَّ كثيرا بمثل هذه الحالات سواء في مصر أو غيرها، وكنت بداخلي أرى أن الأخذ بالرأي الذي أخذت به ليس إنصافا لليتيم وحفظ ماله، وصار لي رأي آخر، أرى أنه الرأي الأصوب بناء على تجارب رأيتها من خلال التعامل في الفتوى، أو التعامل مع المؤسسات التي ترعى حال الأيتام، فهو أحقية هذا اليتيم في هذا المال الناتج عن ماله، ولو كان من فوائد بنكية، وإن حرّمنا الفوائد، فإنها في حق هذا اليتيم بعد مضي هذه السنوات، تُعَد حقا مشروعا له، ليس لحل الفوائد، ولكن لأحقيته في هذا المال، لأن المال لو لم يتم نماؤه، فإنه يفقد قيمته الشرائية، أو قيمته وقت وضعه، عن وقت تسلمه من اليتيم، فلو فرضنا يتيما وُضعت ثروته في البنك عن طريق المجلس الحسبي، منذ عامين، وكانت بالجنيه المصري مثلا، وبلغ سن الرشد القانوني في عام 2024، فإنه يفقد ما لا يقل عن 200% من قيمة ثروته، أي: أنه خسر ولم يربح، ولم يتم الحفاظ على المال كما أمرنا بذلك الشرع.

فاليتيم هنا مضار وليس مستفيدا، كما أنه ليس له قرار في أن يوضع المال في بنك أم غيره، حتى لو كان بالغا بمعيار الشرع، ولكنه ليس راشدا بمعيار القانون ليحق له التصرف في ماله، فلا يستشار اليتيم ولا أهله في المال، ولا في تنميته، ولا في وضعه في بنك إسلامي تكون أرباحه بعيدة عن الشبهة التي يعيشها عند استلام المبلغ.

أمر الشرع بتنمية مال اليتيم

ولذا كان الشرع الإسلامي حريصا على مال اليتيم، لهذا السبب، فقد خشي من أن يحتفظ بالمال مدة، مع وجوب الزكاة فيه إن بلغ النصاب، فبعد مرور سنوات، سيتآكل المال وينقص، فلذا رأى الفقهاء أن الواجب الاتجار في مال اليتيم، حتى لا تأكله الزكاة، وقد ورد في ذلك أحاديث بها ضعف، لكنها صحت موقوفة عن بعض صحابته الكبار، مثل عمر بن الخطاب وعائشة رضي الله عنهما، فقد ذكر الإمام مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: اتجروا في أموال اليتامى ‌لا ‌تأكلها ‌الزكاة. وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه قال: كانت عائشة تليني وأخا لي يتيمين في حجرها فكانت تُخرج من أموالنا الزكاة، وأنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعطي أموال اليتامى الذين في حجرها من يتجر لهم فيها.

فإذا كان الشرع والفقهاء يخشون من ثبات مال اليتيم، فتؤثر فيه الزكاة، وهي فريضة واجبة، تطهر المال وصاحبه، فما بالنا بمال مختزن بلا أي نماء؟ فإذا لم يستطع القائم على مال اليتيم تنمية ماله، أو زيادته، فأقل ما يكون أن يوضع مال اليتيم في شيء ثابت، تزداد قيمته ولا تقل، كالعقار، أو الذهب، أو العملات المستقرة، مما يحفظ عليه ماله، وهو ما لا يحدث في بلداننا، ربما لخوف المجلس الحسبي من تلاعب أهل اليتيم، أو تخوفه من إضاعتهم المال، بسبب عدم الخبرة، أو فساد الذمم.

مستند الفتوى

وفتواي بجواز أخذ اليتيم هذه الفائدة عن ماله، أبنيها على أدلة من الشرع وقواعد الفقه، فالله عز وجل يقول: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164)، فاليتيم هنا ليس هو القائم بوضع المال، ولا يملك ذلك، بل وضعه غيره، ولذا ليس من حقنا أن نعاقبه بوزر غيره، أو نضيره بتصرف غيره، وخاصة أن الفائدة هنا ليست مالا محرَّما من شخص معلوم الجهة، فنطالب من أخذه منه برده إليه، بل هو عن طريق لا علاقة لليتيم به.

ومن القواعد الفقهية التي يمكن الاستشهاد بها في هذه الفتوى، القاعدة التي تقول: لا يتعلق الحرام بذمتين، أي: أن الحرام إذا تسبب فيه طرف، وانتفع بعده طرف آخر به، ليس سببا ولا عالما بهذا الحرام، فالحرمة تتعلق بطرف واحد فقط، وهو من باشر الحرام، وهي قاعدة موضع خلاف، لكنها في حالتنا مناسبة للاستشهاد.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان