وداعًا كريمان حمزة.. أول مذيعة محجبة

رحلت عن دنيانا الإعلامية الكبيرة المعروفة الأستاذة كريمان حمزة، التي ذاعت شهرتها وصيتها في التلفزيون المصري، والفضائيات العربية الدينية في نهايات القرن العشرين، وبخاصة مرحلة السبعينيات وما بعدها، وقد عرفت بسمت وشكل معين، ولغة عربية متقنة، وأداء إعلامي متميز، نالت به حب الجماهير المصرية والعربية.
كنت أظن -وظن الكثيرون مثلي- أنها ابنة أحمد باشا حمزة، الذي كان وزيرا للتموين في عهد الملك فاروق، وقد أسس مجلة إسلامية مشهورة، هي: مجلة لواء الإسلام، التي كان يكتب فيها عمالقة المشايخ المصريين والعرب، ولكني عندما التقيتها صححت لي ذلك، فقالت لي: لا، أنا لست ابنة أحمد باشا حمزة، بل أنا ابنة الأكاديمي الجامعي عبد اللطيف حمزة، وهو كاتب معروف أيضا، وله بصمات كبيرة في المجال الأكاديمي في الإعلام، وله مؤلفات منها: “حكم قراقوش”، و”الرأي العام”.
تعرفها على عبد الحليم محمود والغزالي
كانت كما حكت لي غير ملتزمة بالحجاب، فهي من بيت أرستقراطي، تعلمت هي وأختها الإعلامية المعروفة جيلان حمزة تعليما راقيا، ودخلت مجال الإعلام، وكانت ترتدي الميني جيب والميكرو جيب. وقد ذهبت ذات مرة إلى وزارة الأوقاف تصحب كلبها الصغير، لتلتقي وزير الأوقاف وقتها الشيخ عبد الحليم محمود، وكان مدير المساجد في عهده الشيخ محمد الغزالي رحم الله الجميع.
تقول لي: لقد كان الشيخان يغضان بصريهما، وينظر كل منهما إلى الآخر، متعجبين: ما الذي أتى بمذيعة بهذا اللباس للقائنا؟! وكانت ترى في نظر الشيخ عبد الحليم محمود حياء شديدا يجعله لا يتكلم معها في لباسها ذلك، بينما ترى في نظرة الشيخ الغزالي نظرة غضب، تلومها دون أن يتكلم، وتقرع أذنها دون صوت، هكذا كانت تصلها نصائحهما دون حديث.
لله يا زمري
ثم ارتدت الحجاب، وقدمت برامجها به، وكانت أول مذيعة محجبة تظهر على شاشة التلفاز المصري، وأظن أنها أول مذيعة كذلك على مستوى التلفاز العربي وليس المصري فقط، واشتهرت ببرامجها الدينية المتعددة التي قدمتها، ولم تنج من مضايقات، بحكم أن البيئة لا ترحب بمثلها.
وحينما تم التضييق الشديد عليها في التلفزيون المصري، كتبت كتابا يتحدث عن سيرتها الذاتية فيما واجهت من تضييق، سمّته “لله يا زمري”، وهو مثل جاء من قصة شعبية مصرية طريفة، مختصرها أن رجلا شحاذا كان يطوف على الناس بمزمار يعزف به ما يرقق قلوب الناس له، لعلهم يعطونه مالا، فرأى مكانا جميلا، بناؤه شاهق، وطلاؤه قشيب، فظل يزمر فترة زمنية طويلة، ولم يخرج له أحد من هذا البيت الجميل، الذي ظن أن أصحابه أثرياء، وبعد مدة سأله أحد الناس: لماذا تقف هنا بمزمارك؟ فقال له: أنتظر صدقة من أهل البيت، فقال له الرجل: يا هذا إنه مسجد، فقال الزمار: لله يا زمري، أي: إذن فلأعتبر زمري كله صدقة لله، حيث لا أمل في عطاء الناس، فصارت مثلا يضرب لكل من فعل شيئا ولم يجد مقابلا لما فعل، وهو ما قصدته كريمان حمزة من رحلتها في الإعلام، التي انتهت بلا تقدير تستحقه يتناسب مع عطائها.
اتهامها بتمني سقوط طائرة السادات
ومن المواقف التي استخدمت ضدها كما ذكرت في سيرتها الذاتية: أنهم وظفوا عنوان مقال ضدها، فجعلوه سياسيا، في حين كان المقال عن أمر آخر، فقد ذهبت لأداء العمرة، وركبت طائرة متجهة إلى جدة، وكانت من الطيران السعودي، فوجدت على الطائرة خمرا تقدم، ففكرت: ماذا لو أنني مت، أو سقطت بي الطائرة، وأنا على متنها، ومعنا هذه الخمور، كيف سألقى الله؟ وجعلت عنوان مقالها: ماذا لو سقطت الطائرة؟!
فوشى بها بعض كارهيها للأمن، وقالوا إنها تقصد طائرة الرئيس، وقد كان وقتها الرئيس السادات في طريقه إلى الكنيست الإسرائيلي تمهيدا لمعاهدة كامب ديفيد، ولكنها تعرض بالكلام في سياق آخر، كما سعت للتضييق عليها السيدة جيهان السادات كذلك.
أول من سجل مذكرات القرضاوي مرئية
كانت أعمال كريمان حمزة البرامجية، لقاءات مع كبار الدعاة والعلماء، الشعراوي، والغزالي، وعبد الحليم محمود، والقرضاوي، وغيرهم الكثير من علماء الأزهر الكبار، وكان آخر أعمالها برنامج: الحمد لله هذه حياتي، وهو مذكرات الشيخ القرضاوي، وقد اقتبست عنوان البرنامج، من عنوان مذكرات الشيخ عبد الحليم محمود الذي يحمل هذا العنوان، لتأثرها به، وحبها الشديد له.
تواصلت كريمان حمزة مع الشيخ القرضاوي، عن طريق الدكتور جابر قميحة، وكنت وقتها مديرا لمكتب الشيخ وسكرتيره الخاص، وبالفعل تم اللقاء في منزل الشيخ بالقاهرة، لتسجل معه مذكراته، لصالح قناة اقرأ، وحجزت مكانا للتسجيل في منطقة الأهرامات، ولما سألتها عن ذلك، قالت: أريد أن أبرز معالم بلدي قدر الاستطاعة، أفضل من استديوهات مغلقة، لا يبرز منها جمال مصر.
وكان جابر قميحة يعد المادة العلمية والأسئلة والمحاور لها، وتم تسجيل ثلاثين حلقة مع الشيخ، واختارت كريمان حمزة وقتها أغنية للمذكرات، يقوم بغنائها الفنان التونسي لطفي بوشناق، وقد كان الاختيار منها ومن الشيخ صالح كامل وقتها، وبرروا الاختيار بأن بوشناق فنان ملتزم، وصوته قوي وجميل، ويتناسب مع مقام الشيخ وتاريخه الذي يقدم في الحلقات.
حسن الأداء والمظهر
بعد الانتهاء من هذه الحلقات بفترة، اعتلت صحة كريمان حمزة، وانقطعت أخبارها، ولم نكن نسمع ممن حولها سوى أخبار عن صحتها المعتلة، حتى قرأنا خبر انتقالها إلى الرفيق الأعلى، بعد سنوات طويلة من العطاء الإعلامي، كانت نموذجا للإعلامي المثقف مع ضيفه.
وكان مما امتازت به كريمان حمزة، أنها قدمت نموذجا راقيا للإعلامية المحجبة، فلم تكتف بأنها أول مذيعة محجبة، ويكون ذلك هو جواز مرورها إلى المشاهد، بل كانت تهتم كثيرا بالشياكة في اللبس، وحسن الهندام، لتجمع بين حسن الأداء، وحسن المظهر، وهي رسالة تصل بلا شك إلى متلقيها، رحمها الله رحمة واسعة.