في مواجهة الهيمنة.. جنوب إفريقيا تحاكم جرائم الإبادة الصهيونية

لا تُعد دعوى جنوب إفريقيا أمام “محكمة العدل الدولية” محاكمة لجرائم الإبادة الصهيونية فحسب، بل هي محاكمة للنظام الدولي القائم منذ الحرب العالمية الثانية، ومواجهة للهيمنة، ومحاولة لكبح جماح الأحادية القطبية، التي نحرت قواعد القانون الدولي قربانا على مذبح الصهيونية العالمية، وحماية للاحتلال الإسرائيلي من المساءلة عن جرائمه وانتهاكاته المستمرة في حق الفلسطينيين منذ أكثر من 75 عاما.
يا لها من مفارقة!
يا لها من مفارقة.. أن تبادر دولة جنوب إفريقيا برفع دعوى ضد الاحتلال الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، وتتخذ هذا الموقف الأخلاقي السامي، الذي جبن عنه ولم يجرؤ عليه من هم أولى بحكم روابط العروبة والدين والجوار ووحدة المصير.
في 29 ديسمبر/كانون الأول 2023، قدمت جنوب إفريقيا دعوى إلى محكمة العدل الدولية، تضمنت 84 صفحة تعج بعشرات الأفعال والتصريحات التي تؤكد نية وفعل ارتكاب الإبادة الجماعية والقضاء على الحياة الفلسطينية، وجاءت موثقة لجرائم وحشية ما زالت مستمرة حتى اللحظة في غزة، ويشاهدها العالم يوميا على الشاشات، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد أصبحت شاهدا حيا على أكثر الجرائم الوحشية في القرن الحادي والعشرين وفي التاريخ الإنساني، وعادت بذاكرة العالم إلى جرائم العصور الوسطى.
تهدف الدعوى التي أقامتها جنوب إفريقيا إلى أن تصدر محكمة العدل الدولية قرارا يعلن انتهاك دولة الاحتلال الإسرائيلي لكافة مسؤولياتها وفقا للقانون الدولي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وهنا لابد أن نشير إلى أن ما وجه إلى الكيان الإسرائيلي المحتل من ارتكاب جرائم إبادة يتعلق بمسؤولية الدولة، علمًا بأن الدولة لا تُجرم، ولكن ما يُجرم هو فعل الأشخاص، وهو ما يضع تحت طائلة الملاحقة الجنائية الدولية المسؤولين في الكيان المحتل، بدءا من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وانتهاء بكافة المسؤولين عن ارتكاب جرائم الإبادة الوحشية في غزة أو التحريض عليها.
وبغض النظر عن نتائج المحاكمة، فإن الأحكام التي تصدرها محكمة العدل الدولية تعد ملزمة، ولا مجال لأن تمنعها أمريكا والقوى الغربية كما يحدث في قرارات مجلس الأمن، حيث يُستخدم حق النقض لإفشال أي قرارات ضد الانتهاكات الإسرائيلية، لكن المشكلة تكمن في أن محكمة العدل الدولية لا تتمتع بسلطة إنفاذ قراراتها.
إنكار أمريكي للواقع المشهود!
على صعيد الردود على دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، كان لافتا الرد الأمريكي، الذي يعمق يوما بعد آخر خسارة الولايات المتحدة احترام الملايين حول العالم، حيث بلغ مستوى مذهلا من إنكار الواقع المشهود، واحتقار الحقيقة، واستغفال العالم الذي يشاهد على الهواء مباشرة ما يمارسه جيش الاحتلال الإسرائيلي من إبادة وحشية ضد المدنيين في غزة؛ حيث اعترضت واشنطن على الشكوى واعتبرت أنها لا قيمة لها وتأتي بنتائج معاكسة ولا أساس لها بتاتا، كما أشار بيان الخارجية الأمريكية إلى أن الادعاء بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية لا أساس له من الصحة!
وليس ببعيد عن موقف الولايات المتحدة الأمريكية، كان موقف ألمانيا وإيطاليا على نفس الخط الداعم للاحتلال الإسرائيلي مع فروق في الصياغات.
هياج ووقاحة إسرائيلية
وعلى الجانب الإسرائيلي، تلبست حالة من الهياج والغطرسة ردود كافة المستويات على دعوى جنوب إفريقيا، وبلغت التصريحات حدا غير مسبوق من الوقاحة، كما مثلت إهانة لسمعة المحكمة الدولية، التي أُسست وفقا لميثاق الأمم المتحدة، والتي تمثل هيئتها المنتخبة من المجتمع الدولي مختلف دول العالم، وهذا يؤكد للعالم أنه في مواجهة جماعة عنصرية نازية فاشية لم تتعود على المحاسبة، ومنطقها استعلائي تغذيه ثقافة وأيديولوجية استئصالية، ولا تعير العالم اهتماما، ولا تقيم للآخر وزنا، ومنفلتة لا تحترم قانونا، ولا ترعى ميثاقا؛ ولذلك فإنه يجب على المجتمع الدولي أن يدرك حجم خطر الاحتلال الإسرائيلي ونختبه الحاكمة وداعميه على العالم، وعلى الأمن والسلم الدوليين.
تواطؤ وشراكة في المسؤولية
ومن المسلم به أن حرب الإبادة الصهيونية ضد غزة ليست قرارا إسرائيليا ولكنها قرار أمريكي غربي إسرائيلي، يكشف ذلك الدعم الأمريكي الغربي المطلق لإسرائيل في هذه الحرب، التي تتوزع خلالها الأدوار؛ حيث يباشر الاحتلال الإسرائيلي مهام القتال على الأرض، ممثلا ذراع أمريكا والغرب الممسكة بآلة القتل والتدمير والإبادة، وعلى الجانب الآخر، تقوم أمريكا والغرب بالتصدي للضغوط الدولية، وتوفير الغطاء والدعم السياسي لمواصلة الحرب الوحشية.
ومن الخطأ اعتقاد أن أمريكا تريد وقف الحرب على غزة، فواشنطن هي التي تحول دون إيقاف الهجوم الإسرائيلي بشكل كلي، وهي شريك كامل، بل فاعل أصيل في جرائم إبادة الفلسطينيين في غزة، ومن ثم فإن أمريكا وحلفاءها الغربيين الداعمين لإسرائيل يقعون تحت طائلة العقاب على ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وفقا للاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، سواء بالتواطؤ أو كفاعل أصيل، ولكن السؤال من يحاسب هؤلاء، ومتى يحدث ذلك؟
لا شك أن الولايات المتحدة وشركاءها الغربيين، ومن ورائهم الصهيونية العالمية، لن يتوانوا لحظة في حشد الجهود، واستخدام كل السبل المتاحة من تهديدات وضغوط لمنع محكمة العدل الدولية من اتخاذ قرارها العادل بارتكاب إسرائيل جرائم إبادة في حق الفلسطينيين.
ختاما
من المفارقات الساخرة تصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأن “الولايات المتحدة تعتقد أن قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل تشتت العالم عن الجهود المهمة من أجل السلام والأمن”. وبالنظر إلى الواقع، فإنه منذ هيمنت أمريكا على النظام العالمي فقد أصبحت محفزا لانتشار التوتر حول العالم؛ مما أضر بالسلم والأمن الدوليين، وخاصة في الشرق الأوسط.
بحسب الدعوى المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، طلبت جنوب إفريقيا من المحكمة على سبيل الاستعجال الشديد أن تأمر إسرائيل بتعليق عملياتها العسكرية في غزة، ووقف أي أعمال إبادة جماعية، وإذا نجحت المحكمة وأخذت قرارا احترازيا بمنع العدوان على غزة فهذا يعد إنجازا كبيرا في حد ذاته.
مع توافر كافة المقومات لإدانة إسرائيل، تضع دعوى جنوب إفريقيا ضد جرائم الإبادة الصهيونية القانون الدولي على المحك، وفي ظل ما تضمنه ملف الدعوى من توثيقات وقرائن وأدلة شاهدها العالم أجمع، فإن المحكمة إذا لم تحكم بوجود الإبادة فإن ذلك يعد نعيا للقانون الدولي وإعلانا لوأد المواثيق الدولية، وسقوط النظام الدولي.