طيور الصين المهاجرة تخشى العودة إلى موطنها!

أمام كاميرات الصحفيين الذين دعتهم الحكومة لهذه الزيارة، ممرضة تقدم الشاي لمسنة، بينما تظهر صورة الرئيس الصيني في الخلفية (غيتي)

عودة الطيور المهاجرة بدأت في الصين منذ أسابيع، قبل موعدها السنوي المعتاد بمناسبة احتفالات “عيد القمر” الذي يوافق بداية السنة الصينية مطلع فبراير/شباط المقبل.

يتحرك أكثر من 300 مليون إنسان، بأضخم رحلات هجرة بشرية سنويا، من مدن الهلال الذهبي الغنية، الواقعة بالجنوب الشرقي للصين إلى موطنهم الأصلي بمناطق تصارع الفقر باتجاه الشمال الغربي.

عادة ما يغادر المهاجرون مناطق أعمالهم المتطورة، شنغهاي وقوانغتشو وجوانزو وشينزن وبيجين، بفرحة غامرة في أكبر إجازة رسمية وشعبية، تستمر 15 يوما، حاملين الهدايا مع آمال بالعودة مع أهلهم للعيش بأماكنهم الجديدة. رأينا على وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع إخبارية مئات الآلاف من العائدين، يودعون شنغهاي وبيجين للأبد! يهرب المهاجرون من المدن الكبرى، بعد أن فقدوا وظائفهم منذ أشهر، ومحاولتهم التشبث بالبقاء إلى أن تآكلت ثرواتهم التي كوّنوها على مدار سنوات، أو عجزت أسرهم عن دعمهم ماليا. يبكي الشباب لرضاهم عن خفض رواتبهم وقبول وظائف متدنية، دفعتهم إلى الإقامة في غرف جماعية ضيقة، بأقل الأجور، ومنهم من لجأ إلى النوم بالحدائق العامة، أملا في الحصول على دخل يساعده على البقاء دون جدوى.

“موجات العاطلين”

يطلق المواطنون على رحلات العودة إلى قراهم لهذا العام مسميات عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي، تشير إلى حالة السواد المحيطة بهم، منها “موجة الطرد من الوظائف” و”موجة العاطلين” و”وداعا بيجين”. يتشبث كثيرون منهم بالبقاء، بالوقوف رافعا لافتة على نواصي الطرق طلبا لأي وظيفة تحول دون عودتهم إلى موطنهم الأصلي مفلسين، غير مجبوري الخاطر. على مشارف المدن انتشرت ظاهرة جلوس العمال حول الطرق الرئيسية طلبا لتشغيلهم في أي أعمال، مقابل أجر يومي.

رصدت جريدة “يي كاي” Yi cai الذراع الإخبارية لمجموعة شنغهاي الإعلامية المملوكة للدولة “Shanghui Media group” الأسبوع الماضي، عمال الترحيلات يجلسون بالآلاف في أجواء شديدة البرودة، منذ الرابعة فجرا يوميا على تقاطعات الطرق الرئيسية، بمنطقة تشنغتشو انتظارا لمن يطلبهم في أعمال البناء والنجارة والحدادة.

ابتعد العمال عن التوجه إلى سوق العمل الذي أقامته السلطات بحي “ليو وان” على مساحة 100 فدان، عام 1983، بهدف تنظيم العمال باليومية. جذب السوق نحو 20 ألف عامل، عندما أسندت الدولة إلى بعض الشركات تنظيم تشغيل العمال مقابل أجر يومي في حدود 350 يوان. غادر العمال السوق الرسمية، بعد توقف الشركات عن دفع أجور العاملين، فاندفعوا على الطرقات أملا في أن يخطفهم صاحب عمل، بأجر 130 يوان مقابل 8 ساعات عمل. يطلب من بعضهم العمل بناطحات سحاب على ارتفاع 33 طابقا، في ظل الجو القارس بلا ضمانات من مخاطر العمل أو تأمين اجتماعي وصحي.

تُظهر الصحيفة حجم معاناة العمال المقيمين بغرف جماعية برسوم زهيدة وظروف صحية متدنية، انتظارا لفرصة عمل، يتهافت عليها ما بين 5 آلاف و6 آلاف عامل، بما يُحدث ارتباكا في حركة المرور. رغم المعاناة الشديدة، يظل العمال القرويون عالقين بين البقاء على مشارف المدن، أملا في تحسن الأحوال، وهربا من الشعور بالخيبة بالعودة إلى مسقط رأسهم، دون أموال تسد احتياجات أسرهم أو جزءا من الديون التي تراكمت عليهم منذ انتشار وباء كوفيد-19 عام 2020.

ركود طويل الأمد

مر الاقتصاد الصيني بعام بائس خلال 2023، وتشير توقعات أغلب المحللين إلى أن العام الجديد سيصبح أكثر سوءا. يشهد الاقتصاد ضعفا مخيبا للآمال، دفع بعض الخبراء إلى القول بأن النمو قد بلغ ذروته عام 2023. تراجعت الصادرات ومبيعات التجزئة، وضعفت قدرة حكومات الأقاليم على سداد ديونها وإنفاق المزيد من الأموال، مع تسجيل أعلى عجز تاريخي بمعدل الاستثمار الأجنبي المباشر في نوفمبر/تشرين الأول الماضي، وتوقف آلاف الشركات الصناعية والخدمية عن العمل، مع انخفاض الاستثمار بسوق الأسهم بنسبة 30%، وتراجع النشاط العقاري الذي يُمثل 30% من الناتج القومي الإجمالي إلى 16%.

دفعت الأزمات المتعددة إلى تآكل الوظائف وثروات الأسر. اضطرت الطبقة الوسطى إلى إعادة النظر في أولوياتها المالية بالانسحاب أكثر من الاستثمار وخاصة بالمجال العقاري، وبيع الأصول للحصول على سيولة تمكنها وأفرادها من البقاء. يرصد تقرير لـ”بلومبرغ إيكونوميكس” أن 70% من أصول الأسر المتوسطة مرتبطة بالممتلكات، التي شهدت انخفاضا في أسعارها فمحت ثروة تُقدَّر بنحو 2.7 تريليون دولار العام الماضي. يشير لي هايزنغ، عميد كلية الاقتصاد بجامعة فودان، إلى أن الركود في الصين “اتجاه طويل الأمد لتباطؤ النمو”.

أصبح اقتصاد الصين “باردا من الداخل ساخنا من الخارج”، وانعكس ذلك على تراجع الاستهلاك والاستثمار الحكومي والخاص، ليظل الاقتصاد عالقا في “فخ الدخل المتوسط” مع ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب التي جاوزت 21% وفقا للتقديرات الرسمية، ويؤكد باحثون بجامعة بيجين بلوغها 46%.

لماذا نهتم بمصنع العالم؟!

يتخوف كثيرون من تعطل مصنع العالم المنتج لـ30% من الطاقة الصناعية للبشرية، بما يهدد سلاسل التوريد، ويرفع سعر السلع، ويحرم فقراء العالم من الحصول على الحد الأدنى من منتجات مهمة تلبي احتياجاتهم وتناسب دخولهم. يظل الخوف من البطالة داخل الصين أكثر عمقا وخطورة. يشير مسح مراقبة العمال المهاجرين في الداخل، بمكتب الإحصاء الوطني لعام 2022، إلى أن لدى الصين 295 مليون عامل مهاجر 17.7% منهم يعملون في قطاع البناء. فقدان المهاجرين لأعمالهم لا يعني الموت جوعا فقط، بل الطرد من جنان الصين الواسعة. وفقا لنظام الإقامة الذي تطبقه الحكومة والمقاطعات، المعروف بـ”الهوكو”، فإن انتقال المواطن إلى المدن الكبرى أشبه بنظام الكفيل المطبَّق في بعض الدول، الذي يشترط حصول الغرباء على عقد عمل. يُمنح العقد المحدَّد المدة، وفقا لمستوى التعليم والخبرة والموهبة والسن، واشتراطات أخرى تضعها كل مدينة. لا يحصل المواطن على إقامة دائمة بدون موافقة وزارة الأمن العام، ومراجعة العقد وبيانات الأدلة الجنائية، وتوافر ضمان اجتماعي من صاحب العمل، بما يؤهله للحصول على الخدمات العامة من تعليم ورعاية صحية ومعاش التقاعد. هناك محاولات حثيثة لإصلاح الدولة لنظام “هوكو” لن تُنفذ على مئات الملايين بين عشية وضحاها، لذلك يخشى المهاجرون البطالة، التي تسحقهم وتعيدهم إلى دائرة الفقر التي خرجوا منها بشق الأنفس.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان