الأطماع التوراتية في سيناء
في ظل النكسة التي يتعرض لها جيش الاحتلال في غزة وخسائره منذ بداية معركة طوفان الأقصى يبحث الإسرائيليون عن شماعة ليعلقوا عليها هزيمتهم، فكان الحديث عن ضرورة السيطرة على محور صلاح الدين الحدودي المعروف باسم (فيلادلفيا)، وينشر الإعلام الصهيوني والدولي أهمية احتلال هذا الشريط لتأمين “إسرائيل” ولمنع حماس من حفر الأنفاق تحته لتهريب السلاح من سيناء.
في تصريحات متهورة قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطاب له هذا الأسبوع إن محور فيلادلفيا الذي يبلغ طوله 14 كيلومترا يمثل ثغرة يجب سدها، وأشار إلى أهمية العودة إلى احتلاله، رغم أن اتفاقيات السلام بين إسرائيل ومصر تنص على إخلاء جانبي الحدود من أي وجود مسلح، وقد أعلنت مصر رفضها وقالت على لسان مسؤول أمني مصري في بيان صحفي إنها لن تسمح لإسرائيل بالسيطرة على المحور.
يأتي الادعاء الصهيوني ضمن جملة من التصريحات التي يطلقها القادة الإسرائيليون عن إخلاء غزة تماما وطرد الفلسطينيين إلى مصر ودول أخرى، وضم أراضي القطاع كله إلى الكيان الصهيوني لبناء مستوطنات جديدة على ساحل البحر، وقاموا بتوسيع العملية العسكرية لتمتد من الشمال إلى الوسط، ثم بدؤوا يقصفون الجنوب رغم أنهم تعهدوا بأن يظل آمنا وملاذا للنازحين من الشمال.
الحقيقة أن الأطماع الصهيونية ليس لها نهاية، ولن يكتفوا بالسيطرة على ممر فيلادلفيا فطموحاتهم أبعد من ذلك، وهم إن استطاعوا فلن يترددوا في دخول الأراضي المصرية بمزاعم تطويق القطاع والبحث عن الأنفاق للقضاء على التهديد، رغم أن المنطقة الحدودية أخليت من السكان خلال السنوات الأخيرة وأصبحت أرضا مكشوفة، ولم يعد بها أي إمكانية لحفر أنفاق.
قيادة إسرائيلية فقدت عقلها
الطغمة التي تحكم إسرائيل اليوم مجموعة من المتطرفين الذين لا يردعهم قانون دولي ولا اتفاقيات سلام، ولا يحترمون الأمم المتحدة ومجلس الأمن ولا تهمهم محكمة العدل الدولية، ويساندهم في تطرفهم القادة الغربيون في أمريكا وأووربا، الذين يقدمون لهم الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي باعتبارهم رأس حربة وقاعدة عسكرية متقدمة في قلب العالمين العربي والإسلامي، وهذه النخبة الإسرائيلية التي تمارس الإبادة بلا رحمة مستعدة للقفز في الهواء وارتكاب أي جريمة لتحقيق أهدافها التوسعية التي تستند إلى منطلقات توراتية.
قبل معركة الطوفان ظن الإسرائيليون أن الأرض دانت لهم، وأن الفرصة مواتية لتحقيق حلمهم بهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم والتمهيد لإقامة إسرائيل الكبرى التي قطعوا أشواطا مهمة في طريق تحقيقها، وساعدتهم على هذا الشعور بالعلوّ حالة الهزيمة الاستراتيجية للعالم العربي، وهرولة الكثير من الدول الرئيسية للتطبيع والدخول في تحالف مع الكيان الصهيوني، وقد بلغت تلك الهرولة قمتها في مشروع الممر الاقتصادي مع السعودية الذي يجعل إسرائيل قائدة للمنطقة.
سيناء في التصورات التوراتية
من المهم أن نفهم ما هي أطماع الإسرائيليين في سيناء لإفشال خططهم، وهذه الأطماع ثابتة، وهي موجودة في كل الخرائط المنشورة عن حدود إسرائيل الكبرى، فهناك تصورات عديدة، بعضها طرحه الصهاينة في القرن الماضي من الفرات إلى النيل ومعظم الخرائط عن هذا مصدرها العرب، لكن التصورات التوارتية ترى أن الأرض الموعودة –حسب زعمهم- التي أعطاها الرب لنسل يعقوب من نهر الفرات حتى نهر العريش وليس نهر النيل.
ففي سفر التكوين ورد نص يقول: “في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقًا قائلًا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات”، ونهر مصر في كل التفاسير اليهودية والأطالس الشارحة للعهد القديم هو نهر العريش، وهو نهر مندثر بسبب تصدع أرضي حدث منذ مئات السنين أدى إلى انسداد مجراه وتشتت مياهه، ومكانه الآن وادي العريش، وهو مكان تتجمع فيه المياه في موسم السيول وتصب في البحر المتوسط.
تشير التفاسير والأطالس التوراتية إلى أن مملكة إسرائيل بلغت أقصى اتساع لها في عهد داود وسليمان، من الفرات إلى العريش بشكل بيضاوي طولي، وتضم المنطقة من رفح إلى العريش وحتى طابا، وفلسطين بدون غزة، والأردن وأجزاء من سوريا وجنوب لبنان، لكن مع قدوم الهجرات اليهودية في بداية القرن الماضي بدؤوا يوسعون حدود “إسرائيل الكبرى” لتشمل ثلاثة أرباع سيناء وشمال السعودية والأراضي العراقية الواقعة غرب الفرات ومعظم سوريا والأردن وجنوب لبنان حتى نهر الليطاني ولا وجود للضفة وغزة.
وفي حدود علمي حتى الآن لم تظهر خرائط عن “إسرائيل الكبرى” من مصادر يهودية حقيقية إلا خريطتين متشابهتين إلى حد كبير، الأولى نشرها إيتمار بن آفي أحد رموز الحركة الصهيونية في بدايات القرن العشرين وهو من مؤسسي الكيان الصهيوني الذي ولد عام 1948، وصدرت في كتاب “A Zionist Primer” الذي أصدرته منظمة “Young Judaea” في نيويورك عام 1917، والثانية طبعها الإسرائيليون على عملة معدنية عام 1990 على قطعة 10 أغورات وقد استخدمها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في الأمم المتحدة في جنيف لفضح النيات التوسعية، وفي كلا الخريطتين تظهر حدود “إسرائيل” من الفرات شرقا إلى العريش غربا مع التوسع جنوبا في سيناء وفي شمال السعودية وضم غرب العراق.
في خريطة إيتمار بن آفي تم توسيع المنطقة في سيناء لتشمل معظم حوض نهر العريش وليس الضفة اليمنى فقط، حيث تم مد الخط النازل جنوبا حتى مدينة نخل بوسط سيناء والاستمرار حتى المثلث الجنوبي كله، والملاحظ أن كل هذه الأراضي خالية من السكان تقريبا ما عدا بعض الأنشطة السياحية التي لا توفر كثافة سكانية كثيفة وثابتة مرتبطة بالأرض طوال العام.
وفي الخريطة التي طبعت على العملة الإسرائيلية تم وضع الشمعدان السباعي الذي له قداسة عند اليهود ويطلقون عليه “المينوراه” وتبدو المنطقة من العريش حتى مضيق تيران ضمن “إسرائيل الكبرى” مع التوسع لاقتطاع ثلث السعودية الشمالي وغرب العراق ومعظم سوريا وجنوب لبنان، ويلاحظ في الخريطتين ابتلاع كل الأردن، وكل فلسطين بما فيها الضفة، واختفاء غزة التي كانت موجودة في كل الخرائط القديمة لمملكة داود وسليمان.
ومن الملاحظ في ضوء الدلائل والمؤشرات أن خريطة بن آفي هي التي يجري تنفيذها حيث حققوا إنجازات لا يستهان بها في أجزاء كبيرة منها، فتمت خلخلة وتهجير السكان من أماكن كثيرة في أكثر من دولة، سواء بالإبادة أو التهجير الطائفي بمعاونة أمريكية روسية (العراق وسوريا) أو لإقامة مشروعات اقتصادية (نيوم) أو بمبررات مكافحة “الإرهاب” كما حدث في سيناء، حيث يعد السكان هم العدو الرئيسي للخطط الصهيونية.
وما يجري في غزة من إبادة جزء من خطط الإزاحة لما بعد العريش، ولولا المقاومة والصمود الأسطوري للفلسطينيين والموقف المصري الرافض للتهجير لنجح الإسرائيليون في تحقيق أهم جزء من خطتهم لتحقيق أطماعهم التوسعية.
الطوفان أفشل خطط إسرائيل الكبرى
لابد من التأكيد على أن الخطط الصهيونية ليست قدرا، وإنما هي وساوس وتآمر في السر، ومكر شياطين، وهذا المكر يعمل في الغرف المظلمة بعيدا عن الأضواء، وبمجرد فضحه والتصدي له يتبخر ويتلاشى كما تفعل النار في أعشاش العنكبوت، وقد نجحت معركة طوفان الأقصى في توجيه ضربة قاضية للأطماع الصهيونية، إذ المطروح الآن ليس إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح بجانب “إسرائيل”، وإنما متى ستكون نهاية الكيان الصهيوني الذي لم يكمل مئة عام؟
الإسرائيليون هم الذين يتحدثون الآن عن عدم قدرتهم على البقاء إن لم يهزموا حماس، وهم الذين يقولون للأوروبيين والأمريكيين إنهم إذا لم يقفوا معهم بكل قوتهم فستكون نهاية كيانهم الاستيطاني، وإن مصيرهم سيكون مثل الصليبيين الذين تم طردهم على يد صلاح الدين الأيوبي، وسيعودون إلى البلاد التي جاؤوا منها، ولهذا يعيش قادتهم في حالة جنون ولا يتوقفون عن ترديد كلمة “سننتصر وسنحقق الانتصار” وكأنهم أصيبوا بهلاوس من الرعب والخوف وهم يرون خطر نهايتهم يقترب.
لقد حققت معركة طوفان الأقصى انتصارا هائلا له ما بعده، فقد انهارت فكرة زرع كيان استيطاني بالقوة المسلحة، وها هو العالم يشاهد أمام الشاشات جيوش أمريكا وأوروبا عاجزة عن حماية هذا الكيان الهش، ولم تفلح الجيوش والأساطيل التي جاءت لإنقاذه في حمايته ووقف انهياره، بل علقت الجيوش الغربية التي تجيد تدمير الدول وسحقها في البحر الأحمر والمنطقة أمام جماعات ليس لديها ما تخسره.
الدول الغربية فشلت في قراءة التطورات في منطقتنا، ولم تحافظ على صورتها، وأصرت على حماية الإبادة القادمة من القرون الوسطى، ولم تفهم أن الحملات الاستعمارية نجحت بسبب عجز الشعوب عن الدفاع عن نفسها أمام الأسلحة النارية المتفوقة، أما اليوم فقد انتشرت الأسلحة والقذائف المتنوعة التي جعلت دولة كأمريكا تسحب أفضل حاملة طائراتها خوفا من تدميرها بالصواريخ والقذائف الذكية الطائرة.
لقد انتصرت حماس، ولا أمل في تغيير نتيجة المعركة حتى لو دمروا قطاع غزة كله، فبذرة الحياة متأصلة في الأرض الفلسطينية، وفي المقابل فإن كل يوم يمر ينهار الكيان من داخله وتتهدم أسس أمنه وبقائه، وإن لم يقبل الاحتلال ومن يساندونه الهزيمة فستتوسع الحرب شيئا فشيئا، وستحدث تحولات كبرى في المواقف لتكون الهزيمة للدول الداعمة للعدوان جماعية، وستكون النهاية ليست للكيان الاستيطاني وحده، بل نهاية الهيمنة وبداية حقبة جديدة ترسم الشعوب ملامحها.