غزة في الأيام المئة التالية!

في غزة قُتلت السياسة والدبلوماسية والإنسانية والقيم الأخلاقية. انتُهكت كل القوانين والشرائع والمواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية. سقطت كل المنظمات والهيئات والمجالس والكيانات الدولية.
غزة مقبرة العار والسقوط لهذا العالم. انكشاف فاضح للغابة المتوحشة التي نعيش داخلها في هذه الأرض. إعلان جديد قديم لهيمنة منطق القوة والتجبر والغطرسة واحتقار قيم الحق والعدل والإنصاف. غزة تُعرّي صعود وتَسّيد العدوان وهبوط وضياع السلام.
في غزة شُيّعت الرجولة، ودُفنت الكرامة، وأُبيدت النزاهة، وقُصفت العزة، ودُمّر الشرف، وفقد العرب خصوصًا كل ما كان لهم من صفات نبيلة متوارثة من قديم الزمان ومن عصور تفاخرهم بالشهامة والإجارة والأصالة.
في غزة لم يبق للمسلمين ما يقولونه عن الوحدة والأخوة والاعتصام بحبل الله المتين، وإغاثة الملهوف، والدفاع عن المظلوم وردع الظالم، مات المعتصم، ولا مستجيب لمن ينادي: وامعتصماه.
في غزة فقد العالم -شرقه وغربه، شماله وجنوبه- إنسانيته وقيمه وتطوره عقلًا وسلوكًا وثقافة ورقيًّا وقيمًا ونبلًا وحضارة ودروسًا مستفادة من ماضٍ مظلم دموي له، وممارسات مُشينة في الكراهية والأحقاد والعنصرية والتمييز والاستعلاء طبعته بالتوحش والفظاعة والاسوداد والإظلام.
إبادة هستيرية
قطعة أرض مساحتها 360 كيلومترا مربعا فقط، وسكانها مليونان وثلاثمئة ألف نسمة فقط، تمثل على خريطة جغرافية وسكان العالم مجرد نقطة في بحر واسع من الديموغرافيا، تُتْرك مئة يوم تحت الإبادة الهستيرية من قاتل فاق النازية دموية دون أن يتدخل أحد في العالم للتصدي لهذه المجزرة العظمى.. ما كل هذا الانحطاط؟!
ما تتعرض له غزة طوال مئة يوم لم يحدث مثيل له خلال الحرب العالمية الثانية، ولا في ألمانيا التي أشعلت الحرب عندما بدأت تتهاوى دفاعاتها، وتنهار جيوشها، وتتلقى هزائمها خارج حدودها وفي أراضيها، فلم يحدث في هذه الحرب، ولا في كل الحروب التي تلتها حتى يوم 7 أكتوبر الماضي أن سقط كل هذا العدد من الضحايا، وكل هذا العدد من المشردين الهائمين المرعوبين، وكل هذا العدد من المباني المقصوفة المهدمة المحروقة، وكل هذه المستشفيات والمدارس ومحطات المياه والكهرباء وأبراج الاتصالات والإسعاف والدفاع المدني ومرافق ومنشآت البنية التحتية ومنافذ الخدمات. كل هذا وغيره وأكثر منه مما نراه من مشاهد تدمير وتجريف وسحق وإبادة لكل متحرك وثابت فوق الأرض وعلى سطحها وفي باطنها، لم يحدث مثله في كل الحروب طوال 75 عاما في نفس الفترة الزمنية وقدرها مئة يوم.
شعب صنديد.. ومقاومة بطولية
بل إنها أقل من مئة يوم إذا خصمنا منها سبعة أيام هدنة إنسانية تم خلالها تبادل عدد من الأسرى بين الكيان الصهيوني الإجرامي الإرهابي وبين المقاومة الفلسطينية التي تعيش وشعبها أهوالًا، وتواجه أهوالًا، وتناضل ضد أهوال، ليس منذ السابع من أكتوبر فقط، وإنما منذ الوعد اللئيم المشؤوم الظالم الغادر المُسمّى وعد بلفور 1917 البريطاني الاستعماري؛ إذ منذ هذا اليوم بدأت المآسي الفلسطينية فالنكبات، فالمجازر التي لم تتوقف يومًا، فأي شعب صنديد هذا وأي مقاومة بطولية تلك التي تواجه مع شعبها على مدار أكثر من قرن أوغاد البشرية وذئابها ووحوشها المفترسة واحتلالها الذي ليس كأي احتلال في التاريخ فقد جاء ليحرق الأرض الفلسطينية بمن عليها ليكون وحده على هذه الأرض سارقًا مغتصبًا مستوطنًا لها.
ولكن أنّى يكون للمحتل هذا ما دام هناك شعب ومقاومة يأبيان الرضوخ والتسليم والاستسلام ويقدمان الروح وروح الروح في إصرار وثبات وعزيمة وقوة مقاتل جسور مؤكدين أن الأرض بيتنا، والسماء ظلنا، والأقصى مسجدنا، والقدس عاصمتنا وفيها مقدساتنا.
جنوب إفريقيا.. الحرة
أنتم الناس حقًّا أيها الأحرار الأبطال الأشاوس الذين يقاتلكم محتل عدو دموي عنصري بغيض حقود مدعوم ومسنود من نصف العالم المتجبر الذي يتحكم في نصفه الآخر الذي يتسم بالضعف أو التخاذل أو التواطؤ، إلا الأحرار، بكل معنى الكلمة، وعلى رأسهم دولة جنوب إفريقيا، ومن يؤيدها في محكمة العدل الدولية وهي تعرّي وتفضح حرب الإبادة الصهيونية ضد غزة الأبية، وضد فلسطين الضحية، وضد الباطل والافتراء والاستعلاء والطغيان.
لا نظام عربيًّا تجرأ واتخذ موقفًا قويًّا لصالح غزة يمنع إزهاق روح واحدة، ولا الأنظمة العربية كلها مجتمعة مستعدة أو قادرة على إيقاف مجزرة دولة واحدة ضد أهل غزة، كأن غزة وشعبها ومقاومتها ووجودها صامدة عدوّ لهم أو عبء عليهم ويريدون الخلاص منها.
إنه ليس عدم قدرة العرب على الفعل، بل الخوف من الفعل، ومنح القدرة التي لديهم والأوراق التي في حوزتهم للسيد الحاكم لهم المتحكم فيهم وهو الأمريكي الذي هو في نفس الوقت القاتل الأصلي لغزة، والمحرك الرئيسي لحرب الإبادة، وما الصهيوني إلا منفذ وبندقية لما يُفكر فيه ويُخطط له ويُريده الأمريكي.
المستعمر الأمريكي والمستبد العربي
هناك تحالف بين مستعمر سياسي اقتصادي أمريكي، وبين مستبد تابع عربي، ليس تحالف أنداد، وإنما علاقة التابع الذليل بالمتبوع المتغطرس، وهذا لبّ أزمة العرب شعوبًا وإرادة، ووجودًا وكرامة، وحاضرًا ومستقبلًا.
الشعوب قادرة على الفعل العظيم، لكن الأنظمة تقمع الشعوب، وتشطب الفعل، وترضى بأن تضع نفسها في أسوأ درجة في سلم الهوان.
ليست هناك منطقة في العالم تخضع لهيمنة قوة كبرى تفعل فيها كل ما تريده ضد شعوبها ومصالحها كما تفعل أمريكا في المنطقة العربية، بل في معظم العالم الإسلامي الذي صار عبئًا على حقيقة وجوهر دينه في نجدة المظلوم ومواجهة الظالم بالحق والعدل والقوة والأخلاق.
في المئة الثانية من أيام المجزرة، ومهما كان عدد الأيام القادمة، سيظل هناك فلسطيني يقول: وُلدت هنا، وسأدفن هنا، وهذا مقتل وفشل الحلم الصهيوني في سرقة الأرض ومحو الشعب في فلسطين.