مأزق الإمبراطورية الأمريكية في المنطقة العربية

الرئيس الأمريكي بايدن مغادرًا البيت الأبيض (رويترز)

بايدن الفتوة!

لم يحرك مشهد الأطفال والنساء القتلى، مشاعر العالم المتحضر، ولم يؤرق ضمائرهم محو عائلات فلسطينية كاملة من السجلات، ولم تدفعهم تعرية الشيوخ في عز البرد، وطوابير الجوعى، إلى وقف حرب الإبادة في غزة، ولكن الطائرات الأمريكية تحركت وقصفت اليمن، دون غطاء أممي، لتحمي مرور البضائع في البحر الأحمر، بعد أن شكلت واشنطن سريعا تحالف “حارس الازدهار”، وهو تحالف متعدد الجنسيات لحماية حرية الملاحة!

وعلى عكس، ما كانت تدعيه واشنطن بعدم رغبتها في توسيع العدوان الصهيوني المتواصل على غزة، تفيد تقارير بأن إدارة جو بايدن تضع خططًا للرد عسكريًّا على جبهات متعددة في المنطقة، فقد دفعت الحملة العسكرية الإسرائيلية الضخمة ضد المقاومة الفلسطينية، قطاع غزة إلى حافة الإبادة، والشرق الأوسط إلى حافة حرب أوسع نطاقا.

ويشير الخبير الاستراتيجي اللواء محمد عبد الواحد في تصريحات صحفية، إلى أن أمريكا ضخّمت إعلاميا وسياسيا تأثير ضربات الحوثيين، مشيرا إلى أن “غايتها الحقيقية هي السيطرة على باب المندب وجعل البحر الأحمر منطقة نفوذ لها، مما يضعف النفوذ الصيني ويهدد عبور التجارة الصينية من أماكن أخرى، كما أن هذه المنطقة كانت منذ سنة 1977 حتى انهيار الاتحاد السوفيتي، منطقة نفوذ لموسكو”.

غير أن المتابع الجيد لتطورات الحملة الأمريكية لفرض الهيمنة، التي عبر عن أهدافها جو بايدن نفسه في اجتماع مع قادة عرب قبل عامين في مدينة جدة السعودية بالقول “لن نتخلى عن الشرق الأوسط ولن نترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران”، يجد أن حملته تتجه إلى فشل اقتصادي وسياسي، بعد أن سقطت أخلاقيا تماما.

ويكفي أن نقارن بين تباكي واشنطن طوال العامين الماضيين على وحشية الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، وبين وقوف المندوب الأمريكي في وجه العالم كله في مجلس الأمن لإفشال قرار بوقف المجازر الصهيونية في غزة، لندرك كيف ظهر بايدن “عاريا” من كل ادعاءاته بحماية “حقوق الإنسان”، والدفاع عما يسميه “القيم الليبرالية” أمام شعوب العالم كله.

الاقتصاد العالمي.. أزمة مستمرة

بينما زعمت أمريكا وحلفاؤها في بيان مشترك أن الضربات في اليمن، كانت تهدف إلى “تخفيف حدة التوترات واستعادة الاستقرار في البحر الأحمر”، أظهر تحليل أجرته “رويترز” لبيانات تتبع السفن قبل العدوان على اليمن، أن حركة ناقلات النفط والوقود في البحر الأحمر كانت مستقرة في ديسمبر، على الرغم من أن العديد من سفن الحاويات غيرت مساراتها بسبب هجمات حركة “أنصار الله”.

وعلى الرغم من ارتفاع تكاليف الشحن بشكل حاد، إلى جانب أقساط التأمين، فإن تأثير العمليات التي تنفذها حركة “أنصار الله” كان أقل مما كان يخشى على تدفقات النفط والتجارة. وقالت ميشيل ويز بوكمان، محللة الشحن في قائمة لويدز “لم نشهد بالفعل انقطاع حركة الناقلات الذي كان يتوقّعه الجميع”.

قبل العدوان على اليمن، تركزت الأضرار الناجمة عن العمليات في البحر الأحمر على إسرائيل واقتصادها، إذ توقف نشاط مرفأ إيلات الإسرائيلي بصورة شبه كلية، وهو المنفذ الوحيد لإسرائيل على البحر الأحمر.

ووصف عامي دانيال، الرئيس التنفيذي لشركة ويندوارد، ما تقوم به حركة “أنصار الله” اليمنية بأنه يشبه “العقوبات الصامتة والزاحفة على إسرائيل”، إذ أصبح الإبحار إليها أكثر خطورة، وكل منتج تستورده إسرائيل سيصبح أغلى.

لكن تدخل القوى الحليفة لإسرائيل زاد التوتر في البحر الأحمر بدلاً من تخفيفه، وشاركت الأساطيل الغربية في بث الذعر في الأسواق، ولا سيما شركات الشحن البحري؛ مما دفع أكثريتها إلى تغيير خطوط سير سفنها نحو رأس الرجاء الصالح.

ولكن عمليات حركة “أنصار الله” قلبت الطاولة على الجميع، فإسرائيل لم تكن تتوقع أن تواجه مثل هذه “العقوبات”، بعد أن شعرت بأن المنطقة دانت لها أو كادت، فالجميع يخطب ودها، والغزل العفيف تحول إلى علاقات صريحة، أما واشنطن التي لا تريد الاعتراف بأن العالم يتغير من تحت أقدامها، فقد ظنت أن بمقدورها منع أي مساندة للفلسطينيين عبر إرسال المزيد من الأساطيل الحربية، إلا أن العمليات في البحر الأحمر أحبطت استعراض القوة.

نتيجة لذلك، أعلن أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس، أن عدد السفن التي عبرت القناة في الأيام العشرة الأولى من هذا الشهر انخفض بنسبة 30% من 777 سفينة في الفترة نفسها من العام الماضي إلى 544 سفينة في هذا العام. وتمر عبر قناة السويس نحو 12% من التجارة العالمية، وهي أكثر القنوات الملاحية الاصطناعية كثافة في الاستخدام في العالم.

وتعبر هذه الأرقام عن التأثيرات المباشرة لاستمرار الحرب على غزة على حركة الملاحة الدولية، وهي تأثيرات بالغة تهدد بنوبة تضخم جديدة والمزيد من الإرباك في سلاسل التوريد العالمية، ووفق تعبير أندرياس كريغ، المحلّل في كينغز كوليدج في لندن: “القلق هو أن هذا قد يتصاعد”.

هذا “القلق” هو ما دفع جريدة “الإندبندنت” البريطانية، في عدد يوم الأحد 14 يناير الجاري، إلى التشكيك في أن تؤدي الهجمات على اليمن إلى خفض التوتر في البحر الأحمر قائلة “لن يتوقف الحوثيون عن هجماتهم على السفن، وفي أفضل الأحوال، ستكون هناك اشتباكات بحرية وجوية مستمرة على مستوى منخفض بين الأسطول الغربي والحوثيين، الذين يمولهم الإيرانيون ويزودونهم بالأسلحة”.

وهي تطورات تضرب الاقتصاد العالمي في مقتل، خصوصا مع الأزمة التي يمر بها منذ عدة سنوات. ويشير تقرير أخير للبنك الدولي صدر قبل أيام عن “الآفاق الاقتصادية العالمية”، إلى أنه “مع اقتراب منتصف العقد فمن المتوقع أن يسجل الاقتصاد العالمي معدلات تدعو إلى الأسف في نمو إجمالي الناتج المحلي بنهاية عام 2024 وهي الأدنى والأبطأ في فترة 5 سنوات على مدى 30 عاما”.

ويضيف التقرير رغم “تراجع مخاطر حدوث ركود عالمي، لكن التوترات الجيوسياسية المتصاعدة يمكن أن تخلق أخطارا جديدة تواجه الاقتصاد العالمي على المدى القريب. وفي الوقت نفسه أصبحت الآفاق المتوسطة الأجل قاتمة للعديد من الاقتصادات النامية وسط تباطؤ معدلات النمو في معظم الاقتصادات الكبرى، فضلا عن تباطؤ التجارة العالمية، وأكثر الأوضاع المالية تشديدا منذ عقود من الزمن”.

عين بايدن “الحمراء” لمن؟

ولكن أهداف بايدن بقصف اليمن لم تكن اقتصادية فقط، بل كانت سياسية أيضا، فالصواريخ التي دكت العاصمة صنعاء حملت أيضا تحذيرات لا تخطئها العين إلى أنظمة عربية، حتى لا تخرج عن الخط الأمريكي، ولتبتعد عن منافسي واشنطن الرئيسيين الصين وروسيا، وتمضي في تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال، وتشيطن المقاومة.

وهي أهداف، وخاصة الأخير كان يسير على قدم وساق، ووصل الأمر حد تطبيع العلاقات وبناء مخططات أو حتى منظومات لمشروعات استراتيجية كبرى عابرة للصراع الفلسطيني الصهيوني ومتخطية لثوابته، حتى جاءت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، التي فتحت الباب على مصراعيه لتهديد الهيمنة الأمريكية.

لقد حاول وزير الدفاع الأمريكي إيجاد هذا الربط، لكنه لم يجد صدًى، إذ قال أوستن صراحةً “إن أمريكا تسعى لإفشال روسيا وحماس”، ووضعهما في سلة واحدة، مع الإشارة إلى أن هذا الربط يتطابق مع تقارير الأمن القومي الأمريكي التي حددت أعداء الولايات المتحدة، وهي روسيا في المجال العسكري، والصين في المجال الاقتصادي، والمقاومة عمومًا على الصعيد الإقليمي، وأنها هي العوامل المهددة للهيمنة الأمريكية.

لكن ذلك لم يلق أي مصداقية أو آذان صاغية في الشارع، بل حتى في وسائل الإعلام الأمريكية.

كما أن قصف عاصمة عربية يضعف شعبية الأنظمة المتحالفة مع الولايات المتحدة في المنطقة، حيث أصبحت جماعة أنصار الله تحظى بتعاطف شعبي كبير، بل نجح القصف الغربي في توحيد الشعب اليمني، حتى أولئك الذين كانوا على الجانب الآخر في الحرب الأهلية الطويلة، فمعظم اليمنيين يدعمون الفلسطينيين دعمًا كاملًا، وبالتالي يدعمون الهجمات على السفن المتجهة إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي في البحر الأحمر.

وليس خافيا أن زعماء الشرق الأوسط المقربين من الولايات المتحدة أعربوا عن قلقهم أو عدم موافقتهم على الهجوم على اليمن، خصوصا أنهم يعانون من انتقادات شعبية واسعة لموقفهم السلبي بل والمتواطئ مع الكيان الصهيوني الذي يذبح الفلسطينيين يوميا.

وغرد تاريتا بارسي، نائب رئيس معهد كوينسي في واشنطن، على منصة “إكس” معلقا على هذه التطورات بالقول إن “الطريقة الأكثر فعالية لتجنب هذا التصعيد ليست قصف الحوثيين، بل تأمين وقف إطلاق النار في غزة، لكن بايدن لن يفكر في ذلك، فبدلا من ذلك هو يستعد لحرب إقليمية”.

وتساءلت صحيفة “الإندبندنت” عن “كيفية انتصار الغرب في هذه الحرب ضد الحوثيين، في حين لم تفلح السعودية في ذلك على الرغم من تمتعها بالقرب الجغرافي وقوة نيران مثيرة للإعجاب، وكيف يمكن دفع إيران الداعمة للحوثيين نحو السلام، مع أنها ملتزمة عقائديا وأيدولوجيا هي وحلفاؤها بتدمير إسرائيل وقتل اليهود”.

وتضيف الصحيفة “لا تستطيع حماس الفوز بأي حرب مع إسرائيل، لكن الصراع الأوسع سيكون أكثر توازنًا”.

ورأت الصحيفة أن إسرائيل والغرب سقطا في الفخ الذي نصبته حماس، تماما على غرار ذلك الذي نصبه أسامة بن لادن في هجمات 11 سبتمبر.

تصلب شرايين السياسة الأمريكية

وفي خضم هذه الاضطرابات، تواصل واشنطن تطبيق قواعد اللعبة القديمة: ضخ الأموال والأسلحة والقواعد العسكرية في المنطقة.

ولا تزال إدارة بايدن مصرة على أن السعي للتوصل إلى اتفاق تطبيع إسرائيلي سعودي يركز على الضمانات الأمنية الأمريكية لكلا البلدين، يعد هو المفتاح لتحقيق السلام والازدهار الدائمين في الشرق الأوسط.

هذه التطورات دفعت مجلة رصينة مثل “الفورين أفيرز” إلى أن تكتب في مقال رئيسي “يجب على واشنطن أن تواجه الواقع: لقد فشلت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط”.

وتضيف “على الرغم من الاختلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة بين البلدين، فإنهما يعملان باستمرار على تقويض المصالح الأمريكية وينبغي على واشنطن أن تعيد توجيه نهجها بشكل أساسي تجاه كلا البلدين، والانتقال من الدعم غير المشروط إلى العلاقات الثنائية”.

وعلاوة على ذلك فإن الإدارة الأمريكية في مأزق على الصعيد الدولي، وليس أمامها وقت طويل، فإن واصلت تركيزها على الشرق الأوسط، تكون قد منحت روسيا والصين الوقت والفرصة لتقوية أوضاعهما على حساب الدور الدولي المهيمن للولايات المتحدة، بل تكون قد منحت كلتا الدولتين الفرصة لتحقيق مكاسب في الشرق الأوسط نفسه.

وتاريخيا.. تسبب نظام التنافس الرأسمالي الشرس في مستويات مروعة من الصراع المسلح والمعاناة للشعوب في جميع أنحاء العالم، لكن المشكلة الأخرى التي تواجه الإمبريالية هي أن ضحاياها نادرًا ما يقبلون مصيرهم دون مقاومة.

لقد ثارت الجماهير في جميع أنحاء العالم ضد الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والإسبانية، حتى عندما كانت هذه القوى الاستعمارية تتفوق عليهم عددًا وعتادًا. لكن الشعوب في النهاية انتصرت، إما عن طريق هزيمة الإمبراطوريات وإما عن طريق زرع الخوف داخلها بما يكفي لحثها على الانسحاب.

والمفارقة أن الشعب الفلسطيني الذي يدفع كل يوم ضريبة الدم من أجل الحرية موقن بانتصاره، في حين أن بايدن المدفوع بأطماع الشركات المتعددة الجنسيات وصراعه الشرس مع القوى الصاعدة، روسيا والصين، ورغبته في حماية قاعدته الأمامية إسرائيل، لن يقر بهزيمته قبل سقوط عشرات الآلاف من الضحايا، مما سيؤدي إلى خروجه من البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مصحوبا بلعنات ملايين الأمريكيين الساخطين على دعمه المتنامي للفاشيين الجدد في تل أبيب.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان