حقائق “الطوفان” بعد 100 يوم من العدوان

فلسطينيون يحتفلون فوق دبابة إسرائيلية دمرتها المقاومة الفلسطينية (رويترز)
فلسطينيون يحتفلون فوق دبابة إسرائيلية دمرتها المقاومة الفلسطينية (رويترز)

بعد 100 يوم من “طوفان الأقصى” والعدوان الغاشم على قطاع غزة، بكل ما خلفه من دمار وشهداء تبقى الحقيقة الناصعة أن “الجيش الذي لا يقهر!!”، الذي ضمنت له واشنطن والعواصم الغربية تفوقًا على الجيوش العربية كلها مجتمعة لم يستطع أن يحقق ما أراد من نصر على قطاع صغير مساحته 360 كيلو مترًا، لم يستطع تخليص أسراه، أو الإجهاز على المقاومة، ولم يستطع إعادة الأمن والاطمئنان إلى شعبه.. ليست هذه هي الحقيقة الوحيدة لـ”طوفان الأقصى”، بل هناك الكثير.

فالقضية الفلسطينية قبل “طوفان الأقصى” كانت في طريقها إلى التكفين والدفن بتواطؤ بين الكيان وبعض العواصم العربية، كانت الرؤية الإسرائيلية هي المنفذة عمليًا، فرضت سلطات الاحتلال التقسيم المكاني والزماني في المسجد الأقصى، وحرمت المسلمين من الصلاة والاعتكاف في أوقات كثيرة، وحاولت تهجير بعض أحياء القدس لتفريغ المدينة من سكانها العرب ( مثل حي الشيخ جراح)، وواصلت هجماتها لتأديب الفلسطينيين في الضفة وغزة وحتى داخل الخط الأخضر، ونجحت في تجميد القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وأسكتت بعض الدول التي كانت لا تزال تتحدث عن حقوق فلسطينية.

تعطيل قطار التطبيع

وقطار التطبيع كان قد انطلق بسرعة فائقة محاولًا تعويض تأخيره في الفترات الماضية، وتسابقت العواصم العربية والإسلامية في اللحاق به قبل أن يحتل مقاعده غيرها، لقد قبلت تلك العواصم الرؤية الإسرائيلية للتعامل مع القضية، وتراجعت عن مبدأ الأرض مقابل السلام وقبلت مبدأ التطبيع مقابل التطبيع الذي طرحه نتنياهو، وكان القطار على وشك دخول محطته الأخيرة ليتم الاحتفال بنهاية حقبة العداء لإسرائيل ودخول مرحلة جديدة من السلام والتطبيع دون صداع القضية الفلسطينية، لكن الطوفان أوقف هذا القطار في منتصف الطريق.

لقد استغرقت الاستعدادات لعملية “طوفان الأقصى” 16 عامًا هي نفسها فترة الحصار الذي عاناه قطاع غزة برًا وبحرًا وجوًا، نجحت المقاومة وخاصة حركة (حماس) خلالها في بناء منظومة عسكرية معقولة (لا يمكن مقارنتها طبعًا بجيش الاحتلال)، وبناء شبكة أنفاق معقدة لم يستطع العدو تدميرها حتى الآن رغم أنه يمتلك التقنيات كلها، ورغم أنه أحضر عشرات المضخات العملاقة لإغراقها بالمياه، ومع ذلك لا تزال هذه الأنفاق تؤدي دورها، وتخرج منها رشقات الصواريخ بعد 100 يوم على العدوان، كما أن المقاومة طبقت خطة تمويه طويلة ومعقدة لم يستطع العدو وداعموه رغم كل إمكانياتهم التقنية والمعلوماتية اكتشافها.

أكبر انتصار فلسطيني

لا شك أن ما حدث يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 هو أكبر انتصار حققته القضية الفلسطينية في مسيرتها الممتدة على مدى أكثر من 7 عقود، وهو لا يقل عن انتصار 6 أكتوبر 1973 الذي حققه أكبر جيش عربي (الجيش المصري)، وهو لا يقتصر على تحطيم السور الحاجز، ولا اقتحام المستوطنات وقتل وأسر عدد كبير من الصهاينة، بل إنه أعاد القضية إلى الحياة، ووضعها بقوة مجددًا على أجندة الاهتمامات الدولية، وفي الوقت نفسه أوقف قطار التطبيع.

هذا الانتصار أربك وأغاظ – ليس فقط الصهاينة- بل العديد من الحكومات العربية، وقد ذكر المبعوث الأمريكي السابق للشرق الوسط دينيس روس في مقال له في “نيويورك تايمز” أن بعض الحكام العرب الذين التقاهم عقب “طوفان الأقصى” أسروا له برغبتهم في هزيمة (حماس)، وهذا يفسر الموقف العربي الرسمي الحالي تجاه غزة، الذي لم يرق إلى مواقف دول إفريقية أو لاتينية مثل جنوب إفريقيا وناميبيا وكولومبيا…إلخ.

ورغم مرور 100 يوم لا تزال المقاومة متماسكة وممسكة بزمام المبادرة، ولا تزال صواريخها وقذائفها حاضرة، تنطلق من كل مكان في غزة وخاصة الشمال الذي يدعي العدو سيطرته التامة عليه، كما قدمت أداء سياسيًا وإعلاميًا لا يقل تميزًا عن أدائها العسكري، ولم تكن القوى الفلسطينية متناغمة كما هي عليه بعد الطوفان، وحتى السلطة وكبرى حركاتها “فتح” التي هي الخصم السياسي الأبرز لحركة (حماس) والجهاد لم تنتقد “طوفان الأقصى”، وأعلنت رفضها للعدوان على غزة، وخرجت الضفة الغربية داعمة لغزة، وهو ما يؤكد كلمة أبو عبيدة الأخيرة أن هذه هي حرب الكل الفلسطيني.

استعادة الزخم الدولي

لقد استعادت القضية الفلسطينية زخمها الدولي، بعد أن كانت تقلصت في حدود إقليمية ضيقة، فالمظاهرات الضخمة لم تتوقف في العواصم العالمية وآخرها موجة التظاهر بمناسبة مرور 100 يوم على الحرب في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، لقد عادت القضية سيرتها الأولى كقضية تحرر وطني جذبت اهتمام قوى التحرر الوطني العالمية كلها، وعاد الجميع بما فيهم واشنطن يطرحون حل الدولتين الذي ترفضه إسرائيل، وأصبح الكيان في قفص الاتهام أمام أكبر محكمة دولية.

كما أن حالة الخوف التي عادت إلى المجتمع الإسرائيلي لن يسهل علاجها، والهجرة العكسية للصهاينة إلى الدول التي وفدوا منها ستستمر وستتزايد بعد فقدانهم الثقة في جيشهم وفي أوهام الأمن والاستقرار، لقد تصاعدت مخاوف أزمة العقد الثامن الواردة في كتبهم الدينية، وقد ظهرت هذه المخاوف على ألسنة ساسة وجنرالات وليس فقط الحاخامات.

روح جديدة

“طوفان الأقصى” قد “رد الروح” أيضًا في نفوس العرب والمسلمين وخاصة الأجيال الجديدة (الشباب والأشبال) الذين ولدوا وترعرعوا في ظل انتكاسات متتالية، ولم يكونوا يعرفون شيئًا عن القضية الفلسطينية، ولم يكونوا يشعرون بأي انتماء لها فإذ بهم اليوم هم من يقودون حملات المقاطعة وجمع التبرعات والتظاهر في الدول التي تسمح بذلك، كما أنه أحيا الأمل مجددًا في تغيير النظم المستبدة، بعد أن استبد اليأس بدعاة التغيير نتيجة ما واجهوه من قمع، إنهم الآن يستصغرون ما تعرضوا له مقابل ما تعرض له أهل غزة أصحاب تلك المعجزة البشرية، فرسالة الطوفان الواضحة لهم هي أنه لا مستحيل أمام قوة الإرادة والتصميم.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان