في ذكرى ميلاده: عبد الناصر وفلسطين

جمال عبد الناصر (منصات التواصل)

 

كان جمال عبد الناصر الضابط المصري يخطو شهوره الأولى في عامه الحادي والثلاثين حينما كان في الفالوجا أثناء النكبة العربية الأولى عقب إعلان دولة الكيان الصهيوني في مايو / أذار 1948 ضمن ضباط الجيش المصري الذي يشارك جيوش سبع دول عربية تحركت للفاع عن فلسطين.

وبينما كانت العصابات الصهيونية تلتهم أكثر من نصف أراض فلسطين وتلحق الهزيمة بالجيوش العربية، كان عبد الناصر يصل إلى مرحلة النضج الفكري في مشوار السياسي الذي بدأ مبكرا، إذ أدرك أن أزمة فلسطين ونكبتها ليست في الحرب التي تخسرها مصر والأمة العربية بل في العروش العربية التي ترهلت جيوشها لدرجة أن تُهزم من عصابات صهيونية. حينها أطلق عبد الناصر مقولته إن “النصر يبدأ من القاهرة وليس من ميادين القتال”، وتأكد ذلك بعدما تكشفت فضيحة الأسلحة الفاسدة.

البحث عن الهوية

بدأ جمال عبد الناصر مشواره السياسي مبكرا في المدرسة الثانوية، وشارك في تظاهرات القوى الوطنية من أجل الحرية والاستقلال التي انطلقت بين عامي 1935و1936، وكانت حادثة فتح كوبري عباس في 9 فبراير/ شباط 1936 أبرز أحداثه حيث اُستشهد عدد كبير من الطلبة، وأصيب ناصر في المظاهرات وأُلقي القبض عليه.

بدأ عبد الناصر في البحث عن طريقه في تلك الأيام، وقاده االبحث إلى التعرف على كل التيارات السياسية الناشطة في مصر، ودخل في البداية إلى حزب مصر الفتاة بعدما بواسطة بعض زملائه، وذلك قبل أن يتعرف على خالد محي الدين ويوسف صديق ويتوجه إلى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) وهي حركة يسارية، ثم تعرف على حزب الوفد.

ذهب ناصر بصحبة خالد محي الدين وعدد من ضباط تنظيم الأحرار بواسطة الضابط الإخواني عبد المنعم عبد الرؤوف إلى جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تمارس نشاطا سياسيا ودينيا كبيرين. والمؤكد أن جماعة الإخوان لم تكن لعبد الناصر سوى نقطة عابرة كما كل التيارات والجماعات الأخرى.

كان سعي عبد الناصر للبحث عن الهوية الفكرية والثقافية، وطرق الخلاص من الاحتلال البريطاني، واستقلال مصر ونهضتها تمهيدا لنهضة عربية هي الدافع للتعرف على الأفكار السائدة، فذهب لمصر الفتاة ولم يكن منهم، وسار مع الحركة الشيوعية اليسارية ولم يتوافق معها فكريا ولا عقائديا. كما جلس إلى الإخوان ولم يتأقلم مع أفكارهم، بل يمكننا أن نقول إن جمال لم ير في أي من هؤلاء -بما فيها الأحزاب السياسية- أملا في  الاستقلال والحرية، ولا طرد الاحتلال وبناء أمة يحلم بها كما قال: “إننا نحلم بمجد أمة.. وسوف نبني هذا المجد”.

كانت الخطوة الأولى هي بناء تنظيم الضباط الأحرار المتسع لكل أطياف الشعب المصري الجامع لتوجهاته في محاولة لذوبان الكل في واحد، كنواة نحو بناء الأمة المصرية ومن ثم الأمة العربية، ولم يكن هناك تنظيم يضم كل هذه الأفكار التي يمكن أن تتبلور لتنجز واقعا جديدا يختلف فكرا وطريقا.
ضم التنظيم -الذي كان عبد الناصر قائده ومؤسسه- كافة التيارات بل والطبقات، مزيجا فكريا قد يتناقض ولكن إذا توحدت رؤيته، وصيغت أماله وتطلعاته سوف ينشئ عالما جديدا (هكذا كان حلم جمال عبد الناصر كما أتصوره بناءً جديدا للأمة يطورها ويجعلها قوية في مواجهة تحديات تاريخية سابقة ولاحقه).

فلسطين روح الأمة

لم يكن دور مصر خلال عبد الناصر تجاه فلسطين مختلفا عن دورها الذي ساهمت به عبر التاريخ، وذلك منذ منذ فتح القدس في عهد الفاروق عمر بن الخطاب، مرورا بكل الحملات الصليبية والمعارك التي قادها قاده عظام لتحريرها بعدما احتلتها الجيوش الصلبيبة.

ولم يكن دخول عبد الناصر أي معارك سياسية أو عسكرية من أجل فلسطين -وإن هزم سواء بتهاون أو عبر مؤامرة- بحثًا عن قيادة وزعامة للأمة، لكنه سعى من أجل فلسطين. وإيماني أنه إذا لم تكن قضية فلسطين بهذه القيمة الكبيرة والمتعاظمة لدينا كأمة عربية وإسلامية فهي قضية محورية لمصر وأمنها القومي ولا يمكن لمصر أن تكون بعيدة عن فلسطين.

بهذا الإيمان كان عبد الناصر يؤمن بفلسطين كقلب للأمة، وفي طريق فلسطين كانت الوحدة العربية بين مصر وسوريا في 22 فبراير/ شباط 1958. ومن الطبيعي أن في سعي عبد الناصر للوحدة العربية، وأمة عربية واحدة أن تكون فلسطين قلب وروح هذه الأمة بما لها من مكانة دينية وتاريخية.

لم تغب فلسطين عن مصر/عبد الناصر في صعودها أو انكسارها، ولم يتخل ناصر لحظة بحياته عن قضية فلسطين. وكانت فلسطين الأرض العربية المحتلة هي محور حرب يونيو/ حزيران 1967، التي دخلتها مصر/عبد الناصر. وكانت هزيمة مصر وسوريا وفقد أجزاء جديدة من أرضينا (سيناء وغزة والجولان والضفة الغربية، والقدس الشرقية) هزيمة كارثية بكل المقاييس الحربية.

لم تكن الهزيمة الأولى تاريخيا، ولن تكون الأخيرة ما بقي صراعنا مع الغرب الاستعماري. لم تكن نهاية الأمة ولن تكون، فكم مرة هزمت الأمة ثم قامت، وكم مرة احتلت القدس، وتحررت، وكم مرة اجتاحت الجيوش بغداد ودمشق ثم عادت كلاهما. أخطر ما في الهزيمة أن تفقد الإرادة، وهذا ما لم نخسره قبل هزيمة يونيو، ولا في أعقابها. ظلت مصر/عبد الناصر لا تعترف بدولة الكيان، لا تستسلم، ولا تسالم.

سعت مصر أعقاب يونيو إلى إعادة بناء الجيش، ولم يغب تحرير فلسطين عن استراتيجيته، ورفض عبد الناصر أي مساومات على سيناء وانسحاب عصابات الكيان منها مقابل الاعتراف بدولة الكيان، أو التخلي عن فلسطين، خاضت مصر معركة الاستعداد لمعركة أخرى في القلب منها فلسطين.

فتحت مصر/عبد الناصر أبوابها لكل أبناء فلسطين، لهم في مصر كما لنا وعليهم ما علينا، وتم إعلان منظمة التحرير الفلسطينية كحركة مقاومة للاحتلال الصهيوني بدعم وتسليح مصري. كما فُتحت أبواب الجامعات والمؤسسات لأبناء فلسطين كالمصريين. كان أهل فلسطين في وطنهم، مثلما سنصبح في وطننا عندما نصلي جميعا في المسجد الأقصى إن شاء الله.

لم تكن السياسية والمعارك العسكرية وحدها فقط التي كانت فلسطين في القلب منها في مصر الناصرية، بل في الإبداع الفكري والثقافي والتعليمي والبحثي. كانت فلسطين محور مؤسساتها، وجامعاتها، وحتى إبداعها الغنائي والسينمائي، والدرامي. لم يكن هذا الحضور الشعبي والوجداني متناقضا مع الحالة العامة فكرا وعملا، ولم يكن خللا في التاريخ بل تواصلا، فلم تنفصل مصر الرسمية عن الشعبية في كون فلسطين هي مصر، ومصر لا تنفصل عن فلسطين.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان