مرثية لـ”كريم مروة” ناقد نفسه والعلمانية والتدين الزائف

كريم مروة (منصات التواصل)

اليوم أكتب عن الصديق الذي رحل منذ أيام في بيروت “كريم مروة” عن 94 سنة، وبيننا بسنوات العمر 28 عاما، لكن جمعتني به صداقة استمرت منذ عام 2000 عندما عرفته عن قرب خلال زيارة لكردستان العراق امتدت لنحو ثلاثة أسابيع، وذلك بمناسبة مئوية شاعر الأخوة العربية الكردية “محمد مهدي الجواهري” تولت تنظيمها من القاهرة “منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية”.

هذا الفارق في العمر والمجايلة، بين لبناني وُلد قبل نكبة فلسطين 1948 بثمانية عشر عاما ومصري جاء بعدها بعقد كامل، لم أنتبه إليه إلا الآن وأنا أتذكره مودعا، ولأن “كريم” كان بإمكانه عبور كل فوارق وأزمنة ومسافات، بل واختلافات في النظر والرأي، وفي لمح البصر منذ لحظة التعارف الأولى.

ويضاف إلى هذا جاذبية إنسانية وتدفق وجداني تجاه الآخرين، ومتابعته للأحداث لحظة بلحظة، وتوقد ذهنه وانفتاحه وتجدده، وخفة ظل مع فكاهة لا تبتذل. وفي كل هذا ما جعلني أخاله كلما التقينا في بيروت والقاهرة، بعد مرحلة التأسيس للصداقة عبر حوارات خلال ساعات المشي الصباحي في “دهوك” و”أربيل” و”السليمانية” أنه الأصغر سنا والأكثر شبابا.

في ورطة الكتابة

عن “كريم”

من الصعب الكتابة إحاطة بشخصية ضاجة بالحياة فوارة بالأفكار والمبادرات والتحولات مثل “كريم مروة”، فمن أين تبدأ؟ وما الذي تختار في حدود سطور مقال، أو حتى صفحات كتاب؟ وإن حكيت وكتبت، فمتى وأين تجبر النفس على الاكتفاء والتوقف؟

ومع هذا الحال أو هذه الورطة، ما عليك في سياق “مرثية” إلا الانتقاء، آملا أن تكون الكلمات لائقة بسيرة “كريم”، فتتجاوز التكريم إلى ما ظل يحب هو من  نقاشات ونقد و”مشاكسات” ثقافية وسياسية. وهكذا حتى يسمح الزمان، إن سمح، بكتابة “مرثية نقدية” أكثر شمولا وعمقا.

نعم “مرثية نقدية”، وكيف لا؟ فصداقة “كريم” لم تكن تمنع أن تكون صديقا أيضا لمخالفيه ونقاده و”خصومه”، وهكذا يجب أن تسير بنا الحياة بين تنوع واختلاف وحوار وجدال ونقد، وتجاوز للذات، وكلها في سياق التعايش والمحبة بين أبناء الوطن والأمة، وللراحل الذي أكتب عنه اليوم نصيب منها، ومحاولات لا تهدأ لنقد نفسه.

ولعل من بين دروس تعثر انتفاضات وثورات الربيع العربي عن إنجاز غاياتها النبيلة وطموحها للخلاص من الاستبداد والفساد والظلم والتبعية وإهدار الكرامة الإنسانية والوطنية هو غلبة الإقصاء والاستئصال والتناحر المدمر النافي للآخر المختلف، وأيضا الافتقاد إلى شجاعة نقد الذات، وتدارك الأخطاء والاعتذار عنها، وعدم تكرارها.

حاجتنا إلى مرثيات نقدية

وكيف لا نأمل في مرثيات نقدية خالية من فرط المديح والاقتراب من التقديس لـ”كريم” ولأمثاله من مفكرينا على اختلاف توجهاتهم، وهو بالأصل المفكر اليساري دوما، والسياسي الشيوعي فالمستقيل، والناقد لنفسه وللشيوعية، وأيضا لما كان وصار بمسيرة واحد من أهم الأحزاب الشيوعية في عالمنا العربي وأعرقها نقدا للذات ولـ”دكتاتورية البروليتاريا” ولأخطائه. وقد ارتبط هو به لنحو نصف قرن، وتولى مسؤوليات قيادية تنظيميا وإعلاميا وثقافيا، وقبل أن يغادر قبل حلول بداية هذه الألفية.

هذا “الحزب الشيوعي اللبناني”، الذي تأسس عام 1924، ثم حاول تجربة الطريق “غير السهل أو المريح”، حين سعى لتجاوز “الإيمان” بالمسلمات الأيديولوجية إلى التمرد على موسكو وأغلال الستالينية وما بعد الستالينية “وعبادة الشخص والنص” منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، وقبل “الجلاسنوست” و”البيريسترويكا”، وحتى قبل هزيمة 1967. ونجح أم فشل، لا ينكر عاقل منصف إسهامه وعطاءه وتضحياته وشهداءه من أجل التحرر الوطني والديمقراطي والاجتماعي، وفي مكافحة الصهيونية والاستعمار والاستبداد في بلده والعالم العربي بأسره، وأيضا توظيف علاقاته على صعيد أممي عالمي خدمة للبنان والعرب وقضاياهم، وكان لـ”كريم” مع رفاقه في كل هذا نصيب.

في فضائل النقد

ونقد الذات

قبل أن أتعرف إليه، قرأت، مما طالعت من أعماله، كتابا بعنوان “الوطن الصعب: الدولة المستحيلة” صدر في بيروت عام 1995. وهو تأليف مشترك مع “كريم بقردوني” رئيس حزب “الكتائب اللبنانية” بين 2001 و2007. وأتذكر أن “بقردوني” هو الذي أهداني الكتاب دليلا على تحولات طرأت على “الكتائب” تتوجها مثل هذه الحوارات التي تتأسس على الصداقة والعيش المشترك بين من كانوا خصوما متحاربين بالسلاح خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975ـ 1990). وفي صفحات الكتاب أدلة إضافية على أن كلا “الكريمين”، وليس واحدا منهما فقط، قد تغيرا إلى هذا الطريق.

وفيما بعد، عثرت على كتابات وأقوال لـ”كريم مروة” تنتقد نفسه وحزبه في الإسراع بالانزلاق للمشاركة بالسلاح في الحرب الأهلية، وحتى لو حدث هذا في سياق دفاع “الحركة الوطنية اللبنانية” بقيادة الشهيد “كمال جنبلاط” عن استقلال لبنان وعروبته والمقاومة الفلسطينية ضد هجمة المشروع الانعزالي المدعوم استعماريا صهيونيا وأمريكيا وفرنسيا ممثلا في “الجبهة اللبنانية” وأحزابها اليمينية. وهذا ما يعترف به صراحة مع أوجه أخرى متعددة من النقد الذاتي خلال الحوارات المطولة مع الزميل “صخر أبو فخر” بكتاب: “كريم مروة يتذكر في ما يشبه السيرة الذاتية” الصادر عام 2002.

والحقيقة أن هذا الكتاب/الحوارات يمكن فهمه في سياق سردية طويلة من النقد الذاتي والمراجعات الفكرية والسياسية تعددت في مقالات ودراسات وأوراق، وكذا كتب أخرى من بينها: “نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي” 2010، و”اعترافات نهاية القرن” 2014، وحتى مبكرا وقبل الخروج من الحزب والتوقف عن ممارسة السياسية، وفي صفحات كتاب “المقاومة أفكار للنقاش عن الجذور والآفاق” 1985.

وهذه سردية تستحق أن توضع تحت أضواء البحث والتقييم والنقد، وكدراسة حالة لمحاولة مثقف عربي تجاوز الذات وأخطائها. كما تدعو لأن يستلهم من يود مخلصا تغيير واقعنا الراهن ومن مختلف الاتجاهات ما بها من رسالة ومعنى ونجاح وإخفاق. وما أحوجنا جميعا اليوم وغدا للنقد وتجاوز السلبيات والأخطاء، وبما في ذلك آخر حلقات مقاومة المشروع الاستعماري الصهيوني والمواقف منها، وتوقيا لمصائب صناعة المقدس الذي لا يخطئ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتكاليفها الباهظة حتى على من نجعله “بطلا مقاوما مقدسا”، ومحل تمجيد بالمطلق بلا نقصان أو سلبيات. وأيضا تجنبا لشبهات الاصطفاف، بوعي أو بدون وعي، مع العدو الذي يستهدفنا جميعا وحلفائه، والتوظيف لصالحه.

لماذا اهتم بالتراجم

في العقد الأخير؟

لا أعرف إن كانت رحلة “كريم مروة” مع الكتابة على صفحات “الأهرام” المصرية قد انتهت بهذا المقال اللافت في مضمونه ورسالته وعنوانه “خريطة طريق إلى مستقبل مختلف” والمنشور في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2016؟ وكانت الرحلة قد بدأت بمقال عن الأديبة اللبنانية “مي زيادة” في 29 مارس/آذار 2014، كمفتاح لسلسلة “رواد التنوير”، التي طرح هو فكرتها على رئيس التحرير حينها الزميل “محمد عبد الهادي علام” بحضوري. وبعدما بادرت باقتراح أن ينشر في “الأهرام”، وفي سياق ما تصورته حينها من إمكانية انفتاح على كُتاب عرب من خارج مصر وذوي اتجاهات شتى.

ويلفت النظر هنا ثلاثة أمور:

الأول.. أن “كريم” كرس السنوات العشر الأخيرة من حياته ويزيد في البحث في تاريخ كوكبة متنوعة من شخصيات الفكر والثقافة والسياسة والفن منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكتابة تراجم عصرية جديدة عنها. ولم يكن هذا الجهد منحصرا بنشر في “الأهرام”، بل صدرت له في هذا المضمار كتب في عدد من العواصم العربية، من بينها القاهرة.

وفي مقاله المشار إليه، يؤكد “كريم” أن توجهه لكتابة التراجم لم يكن عفويا، وهذا لأنه -في اعتقادي- كان يهدف من استدعاء هذه الرموز الثقافية إلى إعادة بناء جسور بين المثقفين في الدول العربية، وكذا القراء هنا وهناك. ويبدو أنه شاء أن يُذكرنا بما كان من عظيم تفاعل وتأثير متبادل في أزمنة مضت لم يكن فيها لا إنترنت، ولا بريد إلكتروني، ولا وسائل تواصل اجتماعي، ولا هواتف جوالة، ولا يسر في السفر بالطائرات، فقط -وعلى الأغلب- صحف ومجلات ورقية وفرق مسرحية تتكبد مشاق التنقل.

وفي استحضار الراحل مع عديد من المناسبات لسيرته الشخصية هو وسنوات شبابه الباكر ما يفيد الوعي بأهمية إقامته المبكرة في بغداد وزياراته المتعددة للقاهرة منذ عام 1954 في تكوينه مثقفا ومفكرا وسياسيا فاعلا، وهنا وهناك تبرز رموز مثقفة وعناوين مجلات ومنتديات ثقافية.

والأمر الثاني، وأشار إليه أيضا في هذا المقال، هو دعوته لتبنّي مبادرة اقترحها مع المفكر والناقد الفلسطيني “فيصل دراج” إلى مؤتمر للمثقفين العرب، يضع خريطة طريق للمستقبل، ويعيد الاعتبار إلى الثقافة في حياة العرب، وهو ما لم ير النور لليوم، ولم يُقدَّر لـ”كريم” أن يدركه قبل رحيله.

بحثا عن الصادق والحقيقي

بين المتدينين والعلمانيين

أما الأمر الثالث فقد التفت إليه، وأنا أراجع نص حوار أجريته معه ونشره “الأهرام” في 31 يناير/كانون الثاني 2014، وكان السياق عن المستقبل بعد الانتفاضات والثورات العربية. وحينها قال: “إننا نواجه مرحلة تغيير اقتصادي واجتماعي وثقافي بمعنى معرفة الواقع القائم وشروطه الضرورية التي لا بد من أخذها في الاعتبار مع عملية الانتقال نحو التغيير المنشود. وهذه الأمور تتطلب ارتقاء الوعي عند الشباب من جهة، وتخلص الكهول من جهة أخرى من آثار الجمود، وقراءة الماضي وتجاربه من أجل تجنب عناصر الخلل التي قادت في المراحل السابقة إلى الفشل”.

وقبل أيام، اكتشفت له كتاب تراجم آخر، ولا أعرف إن كان كتابه الأخير، صدر في مايو/أيار 2022 بعنوان “رواد الإصلاح الديني في العصر العربي الحديث”. ويقدم هذا الكتاب ترجمة لـ38 شخصية من المشرق والمغرب العربي، مؤكدا أن القيم الإنسانية هي ذاتها لدى العلمانيين والدينيين الذين تعنيهم قضية الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية، وهذا بشرط أن يكون هؤلاء وأولئك لا يأخذون التدين أو علمانية فصل الدين عن الدولة والسياسة على نحو مظهري وشكلي وطقوسي وسطحي. وهو هنا يميز ويقوم بفرز داخل الصنفين كليهما من مثقفينا بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، حين يشدد أكثر من مرة على وصف “حقيقيين” للمتدينين والعلمانيين الذين يأتي بنماذج لهم من تاريخنا.

ولعل من المهم اقتباس بعض ما قاله في مقدمة هذا الكتاب وعنه: “هكذا أكون قد حاولت قدر استطاعتي أن استنهض أجيالنا الجديدة مفكرين وسياسيين وقادة رأي وشباب من أجل متابعة النضال بالوسائل الديمقراطية وعلى أسس صحيحة في الدين والعلمانية لتغيير أوضاعنا باسم كتلة تاريخية جديدة تضم علمانيين ودينيين على قدم المساواة، واستنادا إلى المبادئ الأساسية عند كليهما، لتحقيق المهام المشتركة المتمثلة في نهوض بلداننا مما هي فيه باتجاه مستقبل آخر مختلف تتحقق فيه مثل الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية”.

وهنا أعتقد أن “كريم مروة” قد مس مسألة الصدق عند العلمانيين والمتدينين سواء بسواء، وأن يصدق عندنا الفكر والقول العمل، وهو أيضا ما يستحق أن نطبقه أيضا على محاولات النقد والنقد الذاتي، التي كان هو من بين المنادين بها والسالكين طريقها، كما أنه يعبر بنا هذا التناقض والتناحر المصطنع الكاريكاتيري بين الدين في عمومه والعلمانية واليسار.

ولعل في طفولة “كريم” بذرة نبت منها التعايش بين الدين والعصر ومشروع التغيير التقدمي عنده، ولأنه من عائلة رجال دين، تميزوا بالوطنية والاستنارة. ولطالما استدعى من هذا المخزون وعند تذكر سنوات طفولته أنه تعلم من والده، بعد ختمه صغيرا القرآن في كُتاب بلدته اللبنانية الجنوبية “حاريص” قيم الدين الإسلامي السمحاء، قيم الحرية والتسامح والاعتراف بالآخر وإعلاء التفكير والعقل.

 رحمه الله.. ولروحه السلام

عندما جاء نبأ رحيله يوم 10 يناير الجاري 2024، راجعت صحيفة “الأهرام” في اليوم التالي، وكنت أتمنى ما لم أعثر عليه: مجرد خبر ولو صغير يُذكر بدوره في الثقافة العربية، وبإسهامه على صفحات الجريدة ذاتها. وفي خاطري أن من بين وجوه فقد “كريم مروة” برحيله أنه مثقف لبناني متميز أحب مصر والمصريين، وكانت سيرته الشخصية وجهوده وكتاباته على مدى نحو سبعين عاما جسرا بين لبنان ومصر، وأيضا بينهما وعالمهما العربي بأسره، والعصر والمستقبل.

 

كاتب المقال (يمين) مع المفكر الراحل كريم مروة

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان