إيران وباكستان: الأزمات الحدودية – التفسيرات والمآلات

في السادس عشر من يناير 2024، قالت إيران إنها استهدفت قواعد لمسلحين “على صلة بإسرائيل” داخل باكستان، وتنتمي المجموعتان المستهدفتان إلى مواطنين من عرقية البلوش، وهي إحدى العرقيات الأساسية التي تسكن هذه المنطقة، ويتوزع سكانها عبر دولها المختلفة وخاصة إيران وباكستان وأفغانستان، وتعرف مناطقهم باسم بلوشستان.
وبعد هذا الإعلان شنت باكستان ضربات ضد من وصفتهم بـ”إرهابيين” داخل إيران، في الثامن عشر من يناير 2024، أي بعد يومين فقط من إعلان طهران أنها قصفت “قواعد لمسلحين” داخل الأراضي الباكستانية.
وجاء الرد الباكستاني، عبر تنفيذ ضربات داخل إيران استهدفت مسلحين انفصاليين من البلوش، وقالت وسائل إعلام إيرانية إن صواريخ عدة أصابت قرية في إقليم سيستان وبلوشستان المتاخم لباكستان، مما أسفر عن مقتل 9 على الأقل، من بينهم “3 نساء و4 أطفال”، وجميعهم، كما ذكر البيان، غير إيرانيين.
في طبيعة الصراع الممتد ونطاقاته
ويشهد إقليم سيستان بلوشستان صراعًا ممتدًا منذ سنوات بين القوات الحكومية الإيرانية والجماعات الانفصالية التي تصنفها إيران بالإرهابية، وهو ما ينطبق نفسه على إقليم بلوشستان في غرب باكستان، والإقليمان من أكثر المناطق فقرًا في البلدين، بسبب الجفاف وارتفاع معدلات البطالة وسياسات التنمية فيهما، ويضم الإقليمان أكثر من 20 مليون نسمة من جماعات البلوش، يعيشون على الحدود المشتركة بين الدولتين التي يبلغ طولها حوالي ألف كيلومتر (620 ميلًا).
والأقاليم المشتركة للبلوش بين الدول الثلاث يتراوح عدد سكانها بين 30 و40 مليون نسمة، ويطل الإقليم لذين على سواحل بحر العرب والمحيط الهندي وخليج عُمان، وهو من أهم المسارات المحورية في مشروع الممر الاقتصادي المشترك بين الصين وباكستان، وأحد الأهداف التي تسعى الهند إلى أن يكون لها موضع قدم فيها، في إطار مشروع ممر الهند الشرق الأوسط، الذي ينطلق من الهند، مرورًا بهذه الموانئ، وصولًا إلى موانئ الإمارات العربية المتحدة، ومنها إلى المملكة العربية السعودية، وصولًا للأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة.
ويعد ميناء جوادر الباكستاني في إقليم بلوشستان، من أهم الموانئ في المنطقة، ومن أهم حلقات مشروع الممر الاقتصادي بين باكستان والصين، بينما في منطقة سيستان – بلوشستان يقع ميناء تشابهار الإيراني، وتسعى الهند للمشاركة في تطويره بهدف منافسة باكستان والصين.
وفي إطار هذه السياقات جاءت العمليات الأمنية التي قامت بها الدولتان، وهي ليست وليدة اليوم، بل تعددت العمليات التي قامت بها الجماعات الانفصالية البلوشية التي تنشط على حدود الدولتين، وأصبحت مصدرًا من مصادر توتير العلاقات بينهما.
مواجهات وتصريحات وتفسيرات
مع الهجوم الإيراني ورد الفعل الباكستاني، ثم ردود الأفعال السياسية والإعلامية من الطرفين، ومن مختلف الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية، تبرز مجموعة من التفسيرات المحتملة للمواجهات الحالية بين الدولتين، ومن بين هذه التفسيرات.
التفسير الأول: إن ما قامت به إيران هو هجوم استباقي تم دون تنسيق مع الجانب الباكستاني، بهدف حفظ الصورة الذهنية لإيران في ظل تعدد العمليات التي طالت بعض مصالحها وبعض رموزها في العراق وسوريا، وكذلك في لبنان، وإن هذا الهجوم يرتبط بتطورات الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخشية إيران من دخول إسرائيل على خط الحركات الانفصالية البلوشية، ومن ثم جاء الرد الباكستاني لتأكيد سيادة أراضيه ووحدتها، وقدرة الجيش على الردع بالقوة نفسها وفي التوقيت نفسه.
التفسير الثاني: إن ما تم من هجمات قامت بها الدولتان، جاء بتنسيق مشترك بينهما للقضاء على هذه التنظيمات المسلحة التي تعمل على الحدود المشتركة، وتشكل تهديدًا لأمنهما معًا، حيث تتخذ من هذه الحدود منطلقات لتهديد الأمن والاستقرار، وترسيخ الرغبة في الانفصال وتكوين دولة مستقلة للبلوش على حساب كل من إيران وباكستان وأفغانستان، وفقًا لوجهة النظر الحكومية في هذه الدول.
التفسير الثالث: إن هذا التحرك تقف خلفه الحركات الانفصالية البلوشية في الدولتين مستفيدة من السياقات الإقليمية والدولية، وانشغال العالم بقضايا أوكرانيا والصراع العربي الإسرائيلي، وما يحدث في البحر الأحمر، وإن العمليات التي قامت بها بعض هذه الحركات في ديسمبر/كانون الأول 2023، وسقط فيها العشرات في إيران، كان حلقة من حلقات هذه المواجهات.
التفسير الرابع: إن هذه العمليات تتم بدعم خارجي، إقليمي ودولي، يستهدف ضرب العلاقة بين الدولتين، والتقارير هنا تشير إلى الهند ومن يدور في فلكها لوقف مشروعات الصين في هذه المنطقة الشديدة الأهمية من الناحية الاستراتيجية، وفي ظل الصراع التاريخي بين الهند وباكستان من ناحية، والصراع الاستراتيجي بين الهند والصين من ناحية ثانية.
التفسير الخامس: الذي يقوم على الجمع بين عدد من التفسيرات السابقة، من حيث وجود أدوات داخلية وخارجية تستفيد من توتير الأجواء، سواء كان ذلك بتنسيق رسمي إيراني ـ باكستاني أو تم دون تنسيق بينهما.
تأجيج الصراع بين خرائط المستفيدين والمتضررين
في إطار الاعتبارات والتفسيرات السابقة، تبرز مجموعة من الملاحظات المهمة:
(1) إنه في الأحوال كلها الخاسر الأكبر هو شعوب المنطقة التي يتم تدمير مقدراتها وثرواتها في ظل الفشل بإدارة الأزمات واحتواء الجماعات الانفصالية، والتوزيع العادل للثروات والحقوق والحريات لمختلف الشعوب والعرقيات التي تعيش فيها، والحيلولة دون توفير البيئة الخصبة للتدخلات الخارجية.
(2) العامل الإقليمي، ممثلًا في الهند ومن يسير في فلكها (الإمارات، إسرائيل) ليسوا بعيدين عن المشهد في حال تفاقمه، ويستفيدون من استمراره وتفاقمه، في ظل الصراعات التاريخية والاستراتيجية في المنطقة.
(3) العامل الدولي: ممثلًا في الولايات المتحدة وأدواتها، حاضر بقوة، استهدافًا لمصالح وتمدد الصين في المنطقة، وخلطًا للأوراق في إيران الحليف الاستراتيجي للصين، ودعمًا للهند الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة.
(4) العامل المذهبي حاضر بقوة، لأن أغلبية السكان البلوش من المسلمين السنة، ويمكن توظيف هذا العامل لمزيد من التفكيك الداخلي في الدول الثلاث (باكستان، أفغانستان، إيران).
(5) السياسات التي تقوم بها إيران في العراق وسوريا، التي يرفضها الكثيرون من الأطراف العربية، نظمًا ونخب سياسية وفكرية، تحفز الكثيرين لتأجيج الصراع بينها وبين باكستان، وبينها وبين أفغانستان، وهي وجهة نظر غير دقيقة وتحتاج إلى إعادة ضبط للبوصلة، لأن اتساع مثل هذه المواجهات لن يضر إيران فقط، ولكن سينال من قدرات باكستان وأفغانستان أيضًا، وفتح جبهة واسعة من التدمير الشامل، في مرحلة نحتاج فيها إلى تكاتف الجهود لاحتواء الصراعات القائمة، وتعزيز التعاون ببين الشعوب الإسلامية.
(6) إن العمليات الحالية، من وجهة نظري، السيناريو الأقرب هو الاحتواء ومنع التصعيد، في ظل التنسيق الأمني والعسكري والمناورات البحرية والجوية المشتركة، بين القوات الإيرانية والباكستانية، وحرص حكومتي الدولتين على الحيلولة دون تفاقم الصراع، في ظل حالة السيولة السياسية والأمنية والعسكرية الإقليمية والدولية الراهنة، التي يمكن أن تفاقم من أخطار أية مواجهة مفتوحة بينهما.