القرضاوي وفكرة إنشاء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

عشرون عاما مرت على تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي قام بالدعوة لتأسيسه شيخنا القرضاوي، ولأن أحداث التأسيس لم يكن هناك شهود عليها سوى قلة، منهم من مات، ومنهم من تمنعه ظروف معينة من الحديث، فقد رأيت من واجب الأمانة التاريخية ذكر القصة، وفاء لكل صاحب فضل، ووضعا للأحداث في نصابها الصحيح، وحفظا للتاريخ.
فإن تاريخ وقصة إنشاء الاتحاد تختلف تماما عما نرى عليه الحال الآن، فقد تبدلت أدوار، ومراحل، وأشخاص، ومات أشخاص، وظهر أشخاص، وغاب آخرون، ولذا كان من المهم توثيق هذه المرحلة من تاريخ الاتحاد، وتاريخ مؤسسه شيخنا القرضاوي، وقد كان دائم التوصية لي بكتابة مثل هذه الأحداث، وأذكر أن الشيخ رحمه الله، كان ينوي الإعداد للجزء الخامس من مذكراته، التي بلغت أربعة أجزاء فقط، توقف فيها عند عام 1996م، فكان يطلب ممن عاصروه في السنوات التالية تذكيره برؤوس الأحداث، ومنها: تأسيس الاتحاد، وطلب مني كتابة قصة التأسيس، وكتبتها، وأرسلت المادة وقتها إلى مكتبه، وللأسف بحثت عنها عندي فلم أجدها.
فكرة قديمة لدى القرضاوي
كان القرضاوي مهموما فترة طويلة من عمره، بإنشاء كيان يجمع بين علماء الأمة، وقد كانت هناك بعض أفكار أتت لغيره في نفس السياق، منها: فكرة إنشاء اتحاد للمفكرين المسلمين، فكر فيها المرحوم الدكتور توفيق الشاوي، ولكنها لم تخرج للنور، وتفاصيلها كاملة عند أستاذنا الدكتور محمد سليم العوا.
وفي أحد الأعوام التي سبقت تأسيس الاتحاد، كان القرضاوي جالسا في مكتبه في مركز بحوث السنة والسيرة بجامعة قطر، وهو آخر المواقع الإدارية التي تولاها قبل وفاته، لمدة تقارب العشرين عاما، بعد تركه عمادة كلية الشريعة، وقد زاره أستاذنا الدكتور عبد المجيد النجار، وبدأ يطرح عليه فكرة عمل كيان علمائي يجمع علماء الأمة، فإذ بالشيخ يخرج ورقا ويعطيه للنجار، وقد كان مسودة المشروع.
فقد كانت فكرة وجود هيئة أو مؤسسة تجمع علماء الأمة، وكتب القرضاوي الفكرة مبينا الهدف منها، وأنه يهدف إلى جمع كلمة العلماء في القضايا الكبرى، لتكون معبرة عن هموم الأمة وآمالها، وعن وسائل الاتحاد بأنه يعمل بكل وسيلة سلمية قانونية مشروعة، وأنه يقبل في عضويته كل خريج كلية شرعية، أو شخص يعمل بالدعوة الإسلامية مشهود له بذلك، وله نشاط ملموس، إلى آخر المسودة التي كتبها، وقد بلغت عشر صفحات، عبرت تعبيرا موجزا ومهما عن الاتحاد وفكرته ومهمته.
وقد أراد أن يكون كيانا شعبيا، وليس رسميا، وإن انضم إليه بعض العلماء الرسميين، لكنه من الأمة يخرج، وإليها ينتمي، لعلمه أن الكيانات الرسمية لها ظروفها، ولها أطرها، ولها حدودها في التحرك والعمل، في ظل الأنظمة المعاصرة، ولا يمكن أن تتخطى الدور المرسوم، أو تتعارض مع السياسة التي تنتهجها السلطة، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم. ولكنه مع ذلك نص على أن الاتحاد لم يأت لينافس هذه المؤسسات في مهامها، ولا ليصطدم مع الأنظمة، وإنما ليكون كيانا معبرا عن الأمة فيما ترجوه من علمائها.
بعد تأسيس الاتحاد، طلب من القرضاوي أن يكتب ميثاقا تفصيليا للاتحاد، وبالفعل كتبه القرضاوي في نسخة مختصرة، ثم طورها لتصبح كتابا مهما، بعنوان: الميثاق الإسلامي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في حوالي 120 صفحة، وهو أشبه بميثاق فكري يعبر عن الإسلام الوسطي كما يتصوره القرضاوي وعلماء الاتحاد، وإن خالف البعض في بعض قضاياه التي تحتمل الاختلاف.
وقد كتب الشيخ أيضا -مع موجز شرح فكرة الاتحاد- ورقة استمارة يملؤها من يريد أن يكون عضوا، تشمل الاسم، ورقم الهاتف، والعنوان، ثم عدل فيها بعض التعديلات المفيدة الدكتور حامد المرواني، مثل خانة: التخصص، ثم قام بتعديلها الدكتور صلاح سلطان، بكتابة التفاصيل في التخصص، فكتب خانة تتعلق بالتخصص، وخانة أخرى تتعلق بالتخصص الدقيق للعضو، وبدأها الشيخ بجملة: أوافق على الأفكار المطروحة عن الاتحاد في الجملة؛ وذلك لأنه يمكن العضو أن يختلف مع الاتحاد في بعض التفاصيل، مع انضمامه إلى عضويته.
وبدأ الشيخ كلما جاءه زائر في مكتبه من الشخصيات العلمائية، يعطيه الاستمارة ليبدي رأيه، أو يوقع عند زيارته أو فيما بعد، وكان أيضا يصطحب معه في كل سفرة له عشرات الاستمارات، ويعود وقد وقع له عليها عدد من المشايخ والعلماء الكبار آنذاك، ومنهم علماء كبار في دول عربية، كان توقيعهم على الاستمارة يحتاج إلى إذن من سلطات بلادهم، ولكنهم وقعوا دون إذن، ثقة في القرضاوي ومشروعه.
رغبة الإمارات في تبني الاتحاد
عرض الشيخ القرضاوي الفكرة على عدد من الدول العربية التي تربطه بها صلة وثيقة، ولكنهم جميعا اعتذروا عن تبنيها، وكان ذلك بداية من عام 2000م، وكانت آخر دولة عرضت تبنيها للمشروع هي دولة الإمارات، وقد كان وزير الخارجية وقتها الشيخ عبد الله بن زايد، وكانت تربطه صلة قديمة بالشيخ، عندما كان وزيرا للإعلام وطلب منه أن يقدم برنامجا في تلفزيون أبي ظبي، فقدمه عدة سنوات، ثم توقف. وبعد توقف البرنامج مُنع الشيخ من دخول الإمارات.
كانت الإمارات في هذه الفترة متحفزة لتبني مشروع الاتحاد، وقد طلب وزير الخارجية الإماراتي من وكيل الوزارة التواصل مع الشيخ لأخذ التفاصيل المطلوبة حول المشروع، ثم أخبرني الشيخ بانقطاع ردودهم عن المشروع، وكان الشيخ كلما قابل مسؤولا خليجيا في دول أخرى، أخبرهم بأن الإمارات تريد المشروع، كي يتنافسوا، أو يغارون سياسيا، فيطلبون رعايته منه، ولكن ذلك لم يحدث، حتى داعبه أحد الحكام قائلا: أعطه لهم، بارك الله لهم فيه. ثم جاءت أحداث سبتمبر سنة 2001م، وبعد ذلك أصبح من غير الممكن أن تتبنى دولة عربية اتحادا للعلماء يدعو إليه القرضاوي.
تشكيل لجنة تحضيرية للاتحاد
جمعنا استمارات عضوية، تقترب من خمسمئة عضو، معظمها من علماء كبار، على مستوى العالم الإسلامي، من مشرقه إلى مغربه، ومن شماله إلى جنوبه، بل من دول غربية يقطن فيها علماء ومفكرون، وقد تنوعت وكثرت الاستمارات، إذ كان القرضاوي في هذه الفترة يسافر كل أسبوع، ويحضر عدة مؤتمرات في دول شتى، وكلما سافر صحب معه عددا من الاستمارات، وأوكل إلى بعض العلماء في كل بلد أن يجمع توقيعات من علماء بلده، فرغم كبر سنّه آنذاك، فإنه رحمه الله كان شعلة نشاط، وقد كان يسابق الزمن وصحته، في إنهاء مشاريع مهمة، وكان يقول لنا: نفسي قبل أن أموت، أن أنهي هذه المشاريع: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومشروع رعاية الموهوبين من أبناء الأمة.
انتهى القرضاوي بعد طول بحث عن دولة ترعى الاتحاد، أو يعلن منها، إلى عدم إمكان ذلك؛ إذ لم يجد بلدا عربيا واحدا يقبله، فجلهم بعد أحداث سبتمبر أصبح الأمر صعبا عليهم. وقد برز في هذه الفترة دور كبير لدينامو تأسيس الاتحاد وهو أستاذنا الدكتور محمد سليم العوا، الذي أوكل إليه القرضاوي مهمة الترتيب والإعداد سواء القانوني أو التنفيذي للإعلان عن الاتحاد، وانتهى الأمر بأن يسجل بوصفه جمعية في دبلن بأيرلندا، وأن يعلن عنه في لندن عاصمة بريطانيا.
ولكن لا بد من الاجتماع لفرز الاستمارات، فمن المستحيل حضور الأعضاء الخمسمئة من دون رعاة، والسفر إلى بلد أوروبي مكلف ماديا، فاحتاج الأمر إلى لجنة مصغرة تدير الأمر، وكان قوام اللجنة أربعة أشخاص فقط آنذاك: رئيسها القرضاوي، ويشرف على الإجراءات والترتيب العوا، ويتحمل عبء الجانب اللوجستي والتنفيذي المباشر: الشيخ حسين حلاوة، وعصام تليمة. وتطلب الأمر أن تلتقي اللجنة في بيت القرضاوي في قطر، لرسم الخطوط العامة للإعلان، والأعضاء الذين سيحضرون. وبالفعل اجتمعت اللجنة، وانضم إليها آخرون للاستشارة في منزل الشيخ، وقد جرت تفاصيل مهمة في هذا اللقاء، سأذكرها وما تبعها من إجراءات في مقالنا القادم إن شاء الله.