ما العمل من أجل تضامن فعال مع الصحفيين الفلسطينيين؟

مظاهرات أمام نقابة الصحفيين المصريين احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي على غزة (الفرنسية)

من السلبيات في مجتمعاتنا العربية ألا تصدق أفعالنا أقوالنا، وأننا نتحمس وتفور مشاعرنا وكلماتنا، ثم سرعان ما نهدأ وننسى، وكأننا لعبة في أيدي الانفعالات والعواطف، ننتقل من هذا الأمر إلى ذاك، دون إنجاز، ونكرر نفس أخطائنا.

ولا بأس في أن تتعايش عندنا المتناقضات، وبدون منطق عقلاني يجعلنا مفهومين لأنفسنا وللآخرين. ولنضف إلى كل ما سبق، آفة المبالغات والتعميم إلى حد العمى، فلا ندرك الاستثناءات في كل قاعدة، وأن لما هو إيجابي جوانب سلبية، وللسلبي جوانبه الإيجابية.

هذه مقدمة أظن أنه لا بد منها مع محاولة التفكير بصوت مسموع للإجابة عن السؤال: ما العمل واستهداف وقتل الجيش الصهيوني لزملائنا الصحفيين الفلسطينيين بغزة لا يتوقف؟ وقد أصبحوا هم الأكثر عددا وإحصاء تاريخيا وعالميا عند المنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة وسلامة الصحفيين منذ عقد التسعينيات.

 

5 نقابات تحت الأضواء

اجتهد وما زال عدد من الصحفيين العرب خارج فلسطين المحتلة، وكل حسب قدراته واتصالاته، في محاولة الكتابة والنشر باللغات الأجنبية بصحف ومواقع دولية كبرى متناولين شؤون الصحافة والصحفيين بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول. وهذا جهد مقدر، سواء نجحوا في النشر أو وجدوا الأبواب مؤصدة. ويلفت النظر هنا أهمية العمل على تعلم وإتقان المزيد من الصحفيين العرب الكتابة والعمل بفنون وتقنيات العصر لوسائل الإعلام بهذه اللغات.

لكن تتطلب بطولات ومعاناة زملائنا الفلسطينيين ما هو أكثر. وتحديدا تحتاج إلى مبادرات وجهود جماعية منظمة، ودؤوبة، لا مجرد فردية أو لحظية أو موسمية، أو بمثابة ردود فعل. ونظرة على خريطة نقابات وتنظيمات الصحفيين العرب القائمة وما فعلت منذ 7 أكتوبر، تضع في دائرة الضوء أولا “نقابة الصحفيين المصريين” و”النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين”. وبعدهما نقابات الصحفيين الأردنيين والعراقيين واليمنيين.

وهذه المنظمات النقابية الخمس، أصدرت في الأغلب بيانات التضامن، كما فعل “اتحاد الصحفيين العرب”، الذي يظل دون أداء يليق بعنوانه. وزادت عليها تنظيم الوقفات الاحتجاجية. أما “نقابة الصحافة اللبنانية” فتميزت عن قرينتها بالداخل “نقابة المحررين”، بدعوة الصحف المحلية إلى التوقف عن الصدور مشاركة في يوم الإضراب العالمي من أجل غزة في 11 ديسمبر 2023.

النقابة التونسية وحصاد

الاتصالات والتنسيق بالداخل والخارج

وكان بإمكان النقابة التونسية، استنادا إلى ما راكمت من علاقات دولية ومع كبرى منظمات المجتمع المدني في الداخل خلال سنوات اتساع هامش الحريات بعد ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 14 يناير/كانون الثاني 10 و2011، مباشرة الاتصالات لتفعيل دعوة مؤتمرها السادس المبكرة في 8 أكتوبر النقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني في العالم إلى التضامن مع الصحفيين الفلسطينيين والعاملين في غزة لتطبيق قوانين حماية الصحفيين الدولية.

وفي هذا السياق أيضا، تعمل هذه النقابة على تنسيق فعاليات مشتركة، من خلال “اللجنة الوطنية لدعم المقاومة الفلسطينية” بتونس، ومع كبريات منظمات المجتمع المدني الحاصلة على “نوبل 2015 للسلام”، وبخاصة الثلاثي: اتحاد الشغل، والهيئة الوطنية للمحامين، ورابطة حقوق الإنسان. ولكن يظل من غير الواضح بعد نتائج وثمار هذه الاتصالات والتنسيق في ظل ما تشهده تونس منذ 25 يوليو/تموز 2021 من انقضاض على المكتسبات الديمقراطية. وكذا انشغال النقابة التونسية برد الهجمة الشرسة على حرية الصحافة والصحفيين في الداخل.

مصير نداء

“ضمير العالم”

بعد انتخابات مارس 2023 بأقل من سبعة أشهر، منح الحدث الفلسطيني المقاوم الكبير وحرب الإبادة الصهيونية المستمرة على غزة النقابة المصرية فرصة لاختبار فعالية التغيير الذي جاء بنقيب من خارج صحفيي السلطة حائز على جائزة “نيلسون مانديلا” لحقوق الإنسان عام 2017. وأصبح السؤال المطروح هو: هل يمكن لهذه المنظمة الكبرى في محيطها الصحفي العربي استئناف السعي العسير للاقتراب من مفاهيم “الاستقلالية” و”المجتمع المدني”؟ وقبل الاستسلام لكونها من “مؤسسات الدولة” خاضعة تابعة لسلطتها وسياستها الرسمية، وبخاصة بعد الاقتحام البوليسي لمقرها أول مايو/أيار 2016.

في المحصلة، يمكننا القول إن النقيب الزميل خالد البلشي، ومعه أعضاء بمجلس النقابة وجمعيتها العمومية، حاولوا منذ 7 أكتوبر استعادة مساحات للحركة كانت مصادرة ومحرمة. وعلى سبيل المثال، جرى تنظيم وقفات احتجاجية فوق سلم النقابة ضد الإرهاب الصهيوني وتضامنا مع فلسطين وصحفييها وطلبا لرفع الحصار عن غزة، وعقد مؤتمرات وندوات وفعاليات أخرى داخل المبنى، وأُطلقت لجنة لتوثيق جرائم الاحتلال والانحياز الصحفي له.

وحاول النقيب ومعه مجلس النقابة فتح حساب بنكي لجمع التبرعات، على غرار ما كان خلال الانتفاضة الفلسطينية، فلم يلق استجابة من السلطات. ولذا لجأت النقابة إلى جمع مواد الإغاثة من أجل غزة، ولكن دون أن تتمكن من مرافقتها، ولو إلى “رفح” المصرية.

ولعل أهم مبادرة في هذا السياق، هي إطلاق النقيب في 7 نوفمبر الماضي، أي منذ 55 يوما، نداء “قافلة ضمير العالم: معًا لوقف الحرب وكسر الحصار على غزة”، من خلال التجمع بدروع بشرية أمام معبر رفح. ولقيت الدعوة تجاوبا من عشرات الصحفيين والكتاب الأجانب الذين سرعان ما تدفقوا إلى مطار القاهرة، لهذا الهدف قاصدين هذه الوجهة. كما تجاوبت معها نقابات ومنظمات مجتمع مدني خارج مصر، وبخاصة في تونس على الصعيد العربي. وتبنت كبريات هذه المنظمات التونسية مع أحزاب وشخصيات عامة هناك “مبادرة ضمير العالم” في بيان مشترك بتاريخ 17 نوفمبر.

لكن جهود تنفيذ الدعوة تبددت عبثا. وفي صمت ذهبت طي النسيان، ودون أن يصدر عن النقابة أي توضيح أو مصارحة. كما لم يصدر ولو بيان مقتضب في سطور يتفاعل مع شكاوى الزملاء المراسلين الصحفيين الأجانب الذين لم يتمكنوا من دخول سيناء، قاصدين رفح فقطاع غزة، أو من جاؤوا من الخارج خصيصا لتلبية دعوة نقابة الصحفيين المصريين. كما يلفت النظر التزام النقابة الصمت ذاته عندما جرى اعتقال وترحيل أربعة أجانب متضامنين مع غزة بين 29 و30 نوفمبر جاؤوا إلى مصر تلبية لندائها.

مصر وتناقضات

تتطلب التجاوز والحل

ومع هذا، يتجنى على النقابة المصرية من لا يرى أشياء تتغير، وفي سياق الإجابة عن السؤال: ماذا نفعل من أجل تضامن فعال مع زملائنا الفلسطينيين؟ وهذا بصرف النظر عن نتائج ومآل محاولات فك القيود. ومثلا من كان يتصور أن يدلي نقيب للصحفيين المصريين بعد 2013 بتصريحات لقناة “الجزيرة”؟ أو أن ترشح اللجنة المشرفة على جوائزها زميلا من القناة هو وائل الدحدوح لجائزة النقابة بشأن حرية الصحافة لهذا العام؟ وفي هذا وذاك، كسر لمحظور التعامل مع “الجزيرة” بعد حملات “شيطنة” دامت نحو عشر سنوات.

لكن ثمة تناقض لا يستقيم، ونتمنى معالجته، وذلك حين تظل النقابة ذاتها وفي الوقت نفسه صامتة، أو تبدو غير مكترثة، إزاء استمرار حبس اثنين من زملاء الدحدوح المصريين دون محاكمة منذ سنوات، وهما: ربيع الشيخ وبهاء الدين إبراهيم. ولم نسمع إلى اليوم أنها رفعت الصوت مطالبة بإطلاق سراحهما؟ ولا نعرف هل أدرجتهما على قائمة اتصالاتها ومطالباتها للسلطات بتحرير نحو 25 صحفيا؟ ولو ظلت دون إعلان الأسماء أو توصيف ما جرى ويجري لهم أو إطلاق حملات من أجل حريتهم!

 

مرة أخرى

ما العمل؟

تنظيمات الصحفيين العرب، وكما يبدو هي في أفضل حالاتها تفاعلا مع زملائنا الفلسطينيين بمصر وتونس ولبنان، إذ تدفع ومعها هذه اللحظة التاريخية في الصراع العربي الصهيوني الأعباء الباهظة للانتقاص من استقلالية “المجتمع المدني” وإضعافه والعدوان عليه. وهذا في سياق عام من غياب حقوق المواطنة والحريات والديمقراطية. ويخطئ من يظن أن الطريق لتضامن فعال مع فلسطين وصحفييها لا يمر من خلال حرية الصحف والصحفيين والمواطنين. وبصراحة سيظل من الصعب أيضا تعبئة هذه النقابات للصحفيين بأعداد كبيرة مؤثرة في فعاليات دعم فلسطين وصحفييها بدون قيام تنظيماتهم النقابية بواجباتها الأساسية دفاعًا عن الحقوق الاجتماعية والمهنية وحرية الصحافة.

وما أحوجنا اليوم، في ظل استهداف التوحش الصهيوني لفلسطين وتهديده للجميع، إلى إطلاق سراح الزملاء الصحفيين كافة في مختلف الدول العربية، ولمصالحات تحترم الحريات واستقلالية الصحافة ونقاباتها والمجتمع المدني بأسره. ولأنه بهذا تتقوى النقابات والمجتمعات والدول، وتصبح أكثر قدرة على التفاعل والتأثير على صعيد عالمي، وفي الصحافة والمنظمات الدولية، وأيضا في صنع القرار الوطني ومن أجل رشاده بالداخل.  وبهذا تتأهل لأن تصبح أجدر بالمشاركة في ملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة كي لا يفلتوا من عقاب قتل الصحفيين وأسرهم، كما جرى على مدى عقود.

وفي كل الأحوال، مطلوب الإسراع بإزالة هذا التناقض الضار بين الحريات وبين قضيتنا الوطنية الكبرى الجامعة: حرية فلسطين والقضاء على الصهيونية عنصرية وتفرقة وإرهابا وتطهيرا عرقيا.

 

مقترحات تتجاوز

الأطر النقابية القائمة

وربما يحسن ألا نقطع الأمل تماما في تطوير أحوال وأداء منظماتنا النقابية القائمة، وزيادة فعاليتها. لكن في سياق العراقيل والتناقضات الراهنة، يحق التفكير في مبادرات تقاد من خارجها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، وباب الاقتراح والسعي يظل مفتوحا أمام غيرها:

ـ إنشاء شبكة صحفيين عرب ومن مختلف أنحاء العالم للتضامن مع زملائنا الفلسطينيين، وبهدف العمل على برامج تواصل ودعم وإسناد وتنظيم فعاليات مشتركة معهم ولأجلهم.

ـ حساب مصرفي أو صندوق لجمع التبرعات من أجل دعم أسر زملائنا الفلسطينيين الشهداء والجرحى والأسرى، مع ضمان الشفافية وآليات عملية تؤمن وصولها لمستحقيها.

ـ البناء على المواقف والجهود الإيجابية لكبريات المنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة وسلامة الصحفيين، وبخاصة “لجنة حماية الصحفيين” و”الاتحاد الدولي للصحفيين” و”مراسلون بلا حدود”. وكذا العمل وفق خطط وبآليات تنظيمية للتفاعل معها، وتطوير جهودها ومواقفها من خلال حوار صريح ونقدي ومثابر، وعبر لغة موضوعية عقلانية يفهمها العالم، تعلي أخلاقيات المهنة وقيم الحرية والمساواة الكونية. ووفق هذا المنهج يمكن متابعة الشكاوى المقدمة من هذه المنظمات أمام الجهات الدولية لملاحقة قتلة زملائنا الفلسطينيين وأسرهم.

ـ الإعداد جيدا من الآن، عبر جهد جماعي وتنظيمي على صعيد عربي يجمع مختلف الأقطار، لليوم العالمي للتضامن مع الصحفي الفلسطيني الموافق 26 سبتمبر، الذي أقره “الاتحاد الدولي للصحفيين” عام 1996. وذلك على أمل أن يجد هذا اليوم بحلوله عام 2024 أصداء في الصحف ووسائل الإعلام العربية والعالمية والهيئات الدولية على أوسع نطاق ممكن.

 

إحكام المقاطعة الصحفية

وعودة النقابة الفلسطينية إلى القدس

في 19 إبريل 2000، نشرت “الأهرام” حوارا أجريته مع نقيب الصحفيين الفلسطينيين الأسبق المرحوم نعيم الطوباسي(*)، دعا خلاله إلى الاستمساك بمقاطعة إسرائيل والإسرائيليين، وتجنب زملائه الصحفيين العرب زيارة فلسطين المحتلة، ولو لتغطية الأحداث ومراسلة صحفهم. وكان لافتا أن يصدر هذا النداء/ الموقف من “فتحاوي”، قبل إعلان إفلاس مسار “أوسلو” واندلاع انتفاضة الأقصى بحلول نهاية سبتمبر من هذا العام.

وتحديدا قال :”إننا لا نعدم وسائل نقل المعلومات إلى أشقائنا العرب والعالم، ويحسن أن نمتنع عن إعطاء إسرائيل ورقة التطبيع المجانية، ودون أن نسترد حقوقنا وأرضنا. ونرحب بزملائنا الصحفيين العرب عندما يأتون إلى الضفة وغزة بعد أن تصبح المعابر في أيد فلسطينية، وتتحرر بالكامل من جنود الاحتلال”. ولست هنا في وراد التطرق لكيف ولماذا نشرت “الأهرام” في طبعتها الدولية هذا الموقف من التطبيع، وحجبته في طبعاتها الثلاث داخل مصر؟ وكان للجريدة حينها مراسل مقيم بغزة، ويزور العديد من صحفييها القدس المحتلة. ولكن هذه قصة أخرى لا محل لها هنا. وربما يجرى تناولها في سياق “التطبيع” ومقاومته بالصحافة المصرية.

والأهم هنا والآن أنه لم يعد مقبولا أو متصورا، بعدما تنتهي الملحمة البطولية لزملائنا الفلسطينيين ومجريات حرب الإبادة الصهيونية، عودة وسائل إعلام عربية إلى إيفاد صحفييها أو مراسلين لها إلى أي بقعة من فلسطين في ظل الاحتلال والحصار وسيادة المحتل على منافذ الدخول إليها.

ولأن العودة إلى الأرشيفات ومراجعة نص حوار “الطوباسي” تذكر بأن مقر نقابة الصحفيين الفلسطينيين كان وقتها في القدس، وانتقل بعدها نتيجة للإرهاب الصهيوني إلى “رام الله” مؤقتا، فلربما كان علينا هذا العام الجديد إطلاق حملة عربية عالمية لعودتها إلى مكانها الأول بعاصمة فلسطين. وذلك على أمل العمل من أجل نقابة صحفيين مفتوحة للمشتغلين بالمهنة كافة داخل فلسطين، وبصرف النظر عن انتماءاتهم ومواقفهم ومواقعهم من السلطة سواء في رام الله أو غزة. وما أحوج أبناء فلسطين كافة إلى الوحدة الوطنية على كل المستويات، في مواجهة حرب الإبادة والتطهير العرقي العنصري الصهيونية.

ــــــــــــــــــــــــ

(*) الحوار منشور في طبعة “الأهرام الدولي” تحت عناوين: “نقيب الصحفيين الفلسطينيين (نعيم الطوباسي) للأهرام: 720 واقعة اعتداء منذ (أوسلو) دليل على انتهاك إسرائيل حرية الصحافة، ندعو للامتناع عن التطبيع وزيارة إسرائيل ولو لتغطية الأحداث”، عدد 19 إبريل 2000، ص 5. وللتوثيق والتاريخ يفيد العنوان ونص الحوار بأن اعتداءات جيش الاحتلال على الصحفيين الفلسطينيين لم تتوقف حتى في ظل “سلام أوسلو”. ولم تكن تنتظر مبررات كهجوم المقاومة 7 أكتوبر 2023.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان