محرقة الصحفيين بين هونغ كونغ وقطاع غزة

سامر أبو دقة
استشهد الزميل المصور سامر أبو دقة بعد ساعات من إصابته في قصف إسرائيلي على خان يونس (فيسبوك)

نظم الإعلام الغربي حملات صحفية واسعة حول محاكمة السلطات الصينية لقطب الإعلام بجزيرة هونغ كونغ (جيمي لاي) المتهم منذ عام 2020 بانتقاد قادة الصين.

تتهم الحكومة مؤسس جريدة “أبل ديلي” الداعمة للحركات المؤيدة للديمقراطية، بالتواطؤ مع دول أجنبية، والدعوة إلى انفصال هونغ كونغ عن الوطن الأم، وتحديه قانون الأمن القومي الذي فرضته في أكتوبر/تشرين الأول 2019. يرصد الإعلام الغربي كل هفوة بمحاكمة تستمر 80 يومًا والتحقيقات مع 76 شخصًا من الناشطين السياسيين الآخرين. يُتوقع الحكم على جيمي لاي بالسجن المؤبد، ومصادرة أملاكه وجريدته التي توقفت بالقوة منذ 2021.

تصدرت أخبار “لاي” نشرات قنوات CNN وBBC، وتحولت محاكمته إلى قصص إنسانية بالصحف والمجلات الأمريكية والبريطانية الكبرى، لتعكس القبضة الحديدية التي تطارد الصحفيين على الأراضي الصينية، وما يتعرضون له من ترويع وملاحقات أثناء ممارستهم للمهنة.

لم يترك مراسلو الصحف مؤتمرًا لمسؤولي وزارة الخارجية الصينية إلا وأثاروا قضية “جيمي لاي” وطلب الرد على الانتقادات التي تثيرها الولايات المتحدة وبريطانيا، واتهامهما القضاء بعدم العدالة، والزج بالصحفيين والناشطين السياسيين في السجون بأدلة ملفقة.

الإعلام والحرب الناعمة

اعتادت الصين على النقد اللاذع للإعلام الغربي، وتَعُده جزءًا من حرب ناعمة تقودها واشنطن ضد قوتها المتنامية المزاحمة لقيادة الغرب في إدارة العالم. توظف بيجين الهجوم لتغذية موجات غضب شعبية ضد الدول التي تنتقدها، وتشكيل رأي عام مناهض لأي دعوات تنادي بالتغيير أو ممارسة حياة ديمقراطية ليبرالية، تحسبًا لانهيار الدولة ونهاية مؤلمة للحزب الشيوعي الحاكم، الذي تقدمه كصانع للدولة وحامي الوطن وحامل صكوك الوطنية.

يَعُد الإعلام الغربي فضح الأنظمة الاستبدادية من أهم أدواره المهنية، لذلك يهتم بما تنشره منظمات حقوق الإنسان، وغيرها من المؤسسات المهنية الوثيقة الصلة بالأمم المتحدة و”مراسلون بلا حدود”، ويرصد الجوائز للصحفيين الذين يتولون الحملات سنويًّا، ويكرّم من يتعرضون للإيذاء من جانب السلطات أو يقعون ضحية للحروب والأحداث الساخنة في العالم.

دعم الإعلام الغربي منح الصحفية الفلبينية ماريا ريسا والصحفي الروسي دميتري موراتوف جائزة نوبل للسلام عام 2021، على “كفاحهما الشجاع من أجل حرية التعبير” في بلديهما، وفقًا لما أعلنته لجنة “نوبل”، في حدث يُعَد الأول من نوعه منذ إنشاء الجائزة عام 1935. عَدَّت اللجنة “ماريا” و”موراتوف” يُمثلان جميع الصحفيين المدافعين عن المَثل الأعلى في عالم تواجه فيه الديمقراطية وحرية الصحافة أجواءً غير مواتية بشكل متزايد، وفي وقت “تعمل الصحافة الحرة المستقلة القائمة على الحقائق على الحماية من إساءة استخدام السلطة والأكاذيب والدعاية للحرب”.

حراس الحقيقة وصناعة الكذب

يقدّم الإعلام الغربي العاملين به والقائمين على شؤونه على أنهم حراس المهنية وحرية التعبير. ظل هذا الاعتقاد سائدًا، رغم ما يشوبه من مآسٍ حول تبعية 90% من وسائل الإعلام لمؤسسات صهيونية ورجال أعمال وثيقي الصلة بشركات السلاح، لقدرته -من حين لآخر- على تحقيق اختراقات مهنية تُسقط حكومات، وتتبُّع الفساد ومواجهة القوى الفاشية التي تقيد حرية الإعلام.

جاءت حرب الإبادة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، لتضعنا أمام حقائق شديدة المرارة، في مواجهة إعلام الزيف وقلب الحقائق. ففي وقت ينتفض فيه الإعلام الغربي أمام محاكمة صحفي صيني ويبحث عن أخرى تائهة -وهو أمر من اختصاصه المهني- نراه صامتًا عن الحق أو مشاركًا بتزييف الحقائق في حرب الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الصهيوني في الضفة الغربية وقطاع غزة.

غزة مقبرة للصحفيين

كشفت منظمة “مراسلون بلا حدود” في تقرير أصدرته من مقرها بباريس، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عن “تحويل إسرائيل غزة إلى مقبرة للصحفيين”، وقدّمت شكويين أمام المحكمة الجنائية الدولية من العدوان على غزة في 7 أكتوبر الماضي، تتهم جيش الاحتلال بارتكاب “جرائم حرب محتملة، لاستهدافها عمدًا قتل الصحفيين الفلسطينيين الذين يصرون على مواصلة عملهم على الأراضي الفلسطينية المحتلة، والعاملين داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1948، ممن يعيشون في الميدان المهني ما بين مطرقة جيش الاحتلال وسندان المستوطنين المدججين بالسلاح”. لم نر لهذا التقرير أي أثر في الإعلام الغربي، ولم ينشر إلا القليل من وقائع اعتداءات على الصحفيين، بدأت بالمضايقة والمنع والملاحقة، ووصلت إلى القتل العمد للصحفيين، واستهداف أبنائهم وأهليهم بالصواريخ، وقذف منازلهم ومكاتبهم بالقنابل والدبابات.

أعلن نقيب الصحفيين الفلسطينيين ناصر أبو بكر استشهاد 97 صحفيًّا برصاص الاحتلال، واعتقال 46 آخرين، منذ بداية العدوان حتى 20 ديسمبر/كانون الأول، كان آخرهم قصف الزميل سامر أبو دقة مراسل قناة الجزيرة، وأفلت من الموت بأعجوبة الزميل وائل الدحدوح عند تعرضه للقصف، بعد شهر من استهداف عائلته بالقنابل، الذي أدى إلى استشهاد زوجته وابنه وابنته وحفيده. يؤكد أبو بكر أن الاحتلال يستهدف “اغتيال القلم والصورة ليطمس الحقيقية”، إذ يغتال المثقفين والمبدعين، ودمر 70% من المكتبات العامة والجامعات والمدارس، ويمارس القتل بهمجية ويلاحق الأحياء من جميع المؤسسات الدولية العاملة بالصحافة والإعلام وحقوق الانسان، حتى لا يشارك أي منهم في نقل الأحداث، ولا يسمح إلا لمن يسهم في تضليل الرأي العام وتزييف الحقائق.

مشاهد الموت والدمار

يتهم الاحتلال -الذي ارتكب نحو 1700 مجزرة أسفرت عن نحو 22 ألف شهيد و56 ألف مصاب- الصحفيين بـ”التحريض ضد إسرائيل على مواقع التواصل الاجتماعي”. تؤكد مجلة (Time) الأمريكية في تقرير متفرد منذ أيام أن “الصحفيين الفلسطينيين يقدّمون لمحة نادرة عن الحياة في غزة، لالتقاط مشاهد الموت والدمار والمعاناة التي أصبحت مرتبطة بالمدينة المحاصرة، حتى انتهت مرحلة المخاطرة بحياتهم لكشف ما يحدث للعالم، وبدأت مرحلة محاولة البقاء على قيد الحياة، والتغطية المستقلة ‘غير المفلترة’ عن مقتل ما يقرب من 30 ألفًا وتدمير 100 ألف مبنى وطرد 1.9 مليون من منازلهم”.

يعلم الاحتلال أن الشهداء الباحثين عن الحقيقة وحرية التعبير، حرصوا على نقل وقائع الحرب وكتابتها بدمائهم، لكونهم فرسان الكلمة والصورة الحقيقية، وسط تخلي الإعلام الغربي عن دوره في ممارسة المهنية التي فقدها على أعتاب المجازر البشرية في غزة. فبينما يتابع حقائق من هونغ كونغ، لم يقدر على دخول محرقة الصحفيين الفلسطينيين إلا بشروط إسرائيلية تقضي بأن ينقل وجهة نظرهم، ويخضع للرقابة السابقة لما ينشرونه، والاستسلام التام للقبضة الصهيونية المتحكمة في وسائل الإعلام.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان