فات الميعاد.. وبدأت الحرب الإقليمية

الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال مؤتمر صحفي (رويترز)

على مدى الأسبوعين الماضيين، انبثقت تحذيرات بوتيرة مكثفة، من مغبة اتساع رقعة الحرب الإسرائيلية على غزة، فتغدو نارًا شاملة، تلتهم الشرق الأوسط بأسره، لكن المفارقة البائسة أن تلك التحذيرات لم تعد ذات جدوى، فالحرب بدأت بالفعل، والدماء تسيل على أكثر من جبهة، والفاتورة الاقتصادية تستنزف أطرافًا إقليميين ودوليين.

في جبهة اليمن، يتمسك الحوثيون باستهداف السفن الإسرائيلية، وكذلك الأمريكية والبريطانية، وتشدد واشنطن ولندن على أنهما ستتصديان لذلك، وتشنان غارات على المدن اليمنية، في حين تدعو روسيا والصين إلى إيجاد حل سياسي، قبل اتساع الفتق على الراتق.

ومعلوم أن اضطراب الملاحة في البحر الأحمر، سيخلّف بالدرجة الأولى، أضرارًا جسيمة على الاقتصاد المصري، إثر تراجع السفن المارة بقناة السويس، وكذلك ستتأذى تجارة دول الخليج والشرق الأقصى وأوروبا.

وعلى جبهة الجنوب اللبناني، تنهال الرشقات الصاروخية على الجنود الإسرائيليين، ويؤكد الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، أن “التصدي مستمر”، حتى يتوقف العدوان الصهيوني، ويتوَّعد بأن أي اعتداء على لبنان لن يكون بردًا وسلامًا على مقترفيه، في حين يشنّ الطيران الإسرائيلي هجماته على البلدات الحدودية، صباح مساء.

وبدورها هوجمت القواعد الأمريكية في العراق وسوريا نحو 130 مرة من فصائل المقاومة الإسلامية، بالصواريخ والطائرات المسيَّرة، إلى حد أن همهمات تسربت من دوائر صناعة القرار الأمريكي، بشأن احتمالات وتبعات سحب القوات، من سوريا على الأقل.

كما أن الأوضاع في سيناء فوق صفيح ساخن، إثر الهرطقة الإسرائيلية التي تطفو على سطح الأحداث، بين فينة وأخرى، حول مخططات تهجير الغزيين.

وفي تطورٍ دراماتيكي، قصفت قوات جماعة جيش العدل من باكستان مواقع في العمق الإيراني، بذريعة الدفاع عن حقوق السنة، فقصفت طهران بدورها مواقع في الداخل الباكستاني، وتبودلت مناوشات الدولتين بين السياسة والرصاصة، فضلًا عن الهجمات الإيرانية على مواقع في سوريا والعراق.

في الوقت ذاته، لم يفوّت نتنياهو الفرصة، فإذا به يطلق تصريحًا خبيثًا: “نحن نهاجم إيران بشكل مباشر”، وهو ما يُرجح لدى طهران تورط تل أبيب وواشنطن في تسخين جبهاتها الحدودية.

كذلك يمثل إعلان إسرائيل، بعد اغتيالها نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري، اعتمادها “سياسة الاغتيالات” في أي مكان ضد من تسميهم الإرهابيين، متغيرًا بالغ الخطورة، إذ سيُعد ذلك تحرشًا استفزازيًّا بسيادة الدول، بما قد يجرُّ إلى الصراع، أطرافًا بعيدة عنه، ولا تريده.

إن لم تكن هذه هي الحرب فماذا تكون؟

الحرب أكثر من شرق أوسطية

الحرب بدأت، وهي أكثر من شرق أوسطية إذ امتدت إلى باكستان جنوبي آسيا، وألقت بظلالها السوداء على الاقتصاد العالمي، ولم يعد سؤال اللحظة، كيف نمنعها؟ وإنما كيف نوقفها؟

غني عن البيان، أن علاج أي مرض يتطلب تشخيصه بدقة، وبعدئذٍ يُوضع البروتوكول العلاجي، وعليه فالتحذيرات من اندلاع الحرب في حين يلفح لهيبها الجميع، هو تشخيص خاطئ، سينبني عليه برتوكول علاج خاطئ، ولعل التشخيص ينبغي أن ينطلق من سؤال: مَنْ أشعل الحرب؟

ثمة إجابة يقول بها الحلف الأمريكي الإسرائيلي، ومَنْ معه من دول الناتو، وعلى رأسها بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وكذلك المطبعين العرب، الذين لم يستنكفوا منذ العملية البطولية “طوفان الأقصى”، عن تأثيم الضحية وتبرئة الجناة.

وفقًا لهؤلاء فإن حركة حماس حضّرت العفريت، ولا تعرف كيفية صرفه، وهي المسؤولة عن إراقة دماء الفلسطينيين، والأوضاع المأساوية لسكان قطاع غزة.

التركيز كله ينصب على يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كأن السيناريوهات بدأت به وانتهت إليه، فليست الحكومة اليمينية، هي التي اصطنعت العوامل التي حرّكت “الطوفان”، إذ استفزت الفلسطينيين، عبر اقتحام المسجد الأقصى مرةً تلو مرة، ولم تكن تحاصر القطاع، وتعتقل آلاف الأسرى، وتهدم البيوت وتستولي على الأراضي وتنفذ مخططات التهويد.

هذا ما كان، أما فيما يتعلق بما هو كائن، فكأن إسرائيل لا تقصف غزة الآن بالقنابل المحرمة دوليًّا، ولا تدكّ المستشفيات ودور العبادة والمناطق بُعيد إعلانها آمنةً، ولم تسفك دماء نحو 25 ألف شهيد.

لدى إسرائيل وحلفائها، يبدو الأمر مثل مشهد سينمائي، توقفت صورته منتزعة من سياقاتها، عند “الطوفان”، فليس قبله قبل، وليس بعده بعد.

لماذا أشعلت أمريكا الحرب؟

الحقيقة الجلية أن إسرائيل هي التي أشعلت الحرب، لكن هناك طرفًا آخر سكب الزيت على النيران، وإن كان ذلك من وراء ستار.

هذا الطرف هو الولايات المتحدة، التي أعلنت منذ اللحظة الأولى “أن حرب إسرائيل حربها”، فهرعت إلى إعادة نشر قواتها في المنطقة، بذريعة منع اتساع دائرة الصراع. والمفارقة أن الذريعة أصبحت سببًا.

تفسير القرار الأمريكي، يأخذنا إلى اتجاهات شتى، منها أن واشنطن لم تكن في أية مرحلة، بهذا التهافت في المنطقة، فدخولها الحرب أو تحريًا للدقة تعمدها إشعالها، ربما يسترد لها شيئًا من نفوذها المفقود، خلال فترة بايدن الذي تراخت قبضة البيت الأبيض في عهده، فإذا بحلفاء تاريخيين، يمدون الجسور مع روسيا والصين، في تحدٍّ غير مسبوق لواشنطن.

وليس بعيدًا عن الأهداف، ترويض جموح إسرائيل، التي تتمرد على دورها الوظيفي، كما تجلى بوضوح حين تحدى نتنياهو بايدن، على خلفية أزمة قانون الإجراءات القضائية.

كما يعتبر الحزب الديمقراطي، الحرب فرصة لتسويق بضاعته لقواعده الانتخابية، فأمريكا ستحمي “هيبتها الإمبراطورية”، وهي رؤية تختلف جذريًّا مع رؤية الحزب الجمهوري، الذي يختزل “العظمة الأمريكية” في جباية الإتاوات من “الحلفاء الأثرياء”، كما كان الحال إبَّان فترة الرئيس السابق ترامب.

وثمة هدف أمريكي إسرائيلي مشترك، وهو نزع أو تقليم مخالب “محور المقاومة”، لا حماس فحسب، بعد أن كشفت عملية الطوفان عن أن إسرائيل رغم السلاح المتفوق، محض خرافة دعائية.

غير أن اتساع الحرب مستحيل أن يحقق هذا الهدف، فمحور المقاومة رغم خلافاته الأيدولوجية العميقة، يبدو اليوم أكثر تماسكًا من أي وقت مضى، إذ يصطف ضد الاحتلال الإسرائيلي والضربات الأمريكية.

وقد وضع التدحرج الأمريكي المباشر إلى الصراع، القضية الفلسطينية، للمرة الأولى منذ عقود طويلة، في بؤرة اهتمام الرأي العام العالمي، بما يشكل مكسبًا للمقاومة، وخسارةً لمحور الاحتلال، خاصة بعد تبني المقاومة خطابًا سياسيًّا وإعلاميًّا، لا يجتر أدبيات الخطاب الإسلامي الكلاسيكية، وإنما يركز على ما تستوعبه العقلية الغربية، على نحو مبادئ حقوق الإنسان.

والمؤكد أن توحيد ومن ثم تقوية محور المقاومة، مع رفض نتنياهو إلقاء السلاح، لكونه يعي أنه سيُقذف عندئذٍ في قعر مزبلة التاريخ، سيفضي حتميًّا إلى إطالة أمد الحرب، وهكذا يغدو سؤال كيف ومتى تُخمد النيران؟ سؤالًا في منتهى الصعوبة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان