كيف يتسبب النمو السكاني الفلسطيني في هزيمة دائمة لإسرائيل؟

أطفال غزة بين المنازل التي قصفها الجيش الإسرائيلي (غيتي)

مهما اشتدت قساوة القصف، فلا بد أن تخطئ بعض القنابل طريقها، لأن خيمة هناك أو منزلًا مهدمًا ينتظر مولودًا أراد الله أن يخرج إلى النور، كما يشق الزهر طريقه عبر ثقوب الصخور الصلبة متحديًا محيطه مصرًّا على الوجود، غير آبه بقساوة الصخر، يمد أغصانه خارج الظلام ليأخذ جرعة من أشعة الشمس.

وغزة الصامدة، هي تجسيد حيّ لما قاله محمود درويش: “ونحن نحب الحياة إذ ما استطعنا إليها سبيلا”، فرغم أنف القصف والدمار وخروج العديد من المستشفيات من الخدمة، رزقت غزة بأكثر من عشرين ألف مولود منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وفقًا لتقارير اليونيسيف. واللافت أن هذا العدد يقترب كثيرًا من عدد الشهداء الذين ارتقوا منذ بدء العدوان.

وكأن غزة تقول لمن يريد تصفير الأرض من سكانها: “هذه الأرض يخرج من رحمها أبطال، مصرون على الحياة، فلا القصف ولا الدمار يوقف الولادة، فالميلاد هو الشيء الوحيد الذي يعدل كفة الموت أو يتجاوزه ليبقى عدد سكان غزة ثابتًا رغم حرب الإبادة”.

منذ السابع من أكتوبر كان هنالك نحو 50 ألف امرأة حامل في غزة، واجهن أصعب الظروف ومنهن من فقدت حياتها وهي تهرب من القنابل بحثًا عن مكان آمن للحفاظ على جنينها، وكثير منهن ولدن في طريقهن إلى النزوح، ربما في سيارة أو على قارعة الطريق، وحملن أجنتهن كما تحمل الصدفة اللؤلؤ، فهذه الأجنة غالية وفريدة، هي الأمل والحبل السري الذي يربط السكان بأرضهم.

 قصص مخيفة لحوامل يهربن من القصف

كل ولادة في غزة هي قصة نجاة بذاتها، فكم من القصص تروى عن نساء تقطعت بهن السبل للوصول إلى المستشفيات خلال مخاض الولادة، تلك القصص تمنيت لو أنها من الخيال لفرط هولها، إذ يروي أحد السكان قصة امرأة كانت على وشك الولادة، وكانت تعاني من النزيف، وبعد محاولات مضنية من الزوج، تمكن من نقلها عبر سيارة إسعاف إلى أحد المستشفيات ورغم عدم وجود أسرّة، تمكن الأطباء من إخراج الطفل سليمًا والحفاظ على حياة الأم، وكان الأب فرحًا بابنه البكر، فغادر ليبحث عن شيء تأكله الزوجة، لكنه عاد شهيدًا محمولًا على الأكتاف.

إذن هي حرب أرحام وحرب على النساء والأطفال وسباق محموم من المحتل للقضاء على أي فرصة لولادة جديدة تجد لها سبيلًا للحياة، تراها إسرائيل هزيمة مستمرة لوجودها، حرب يراد بها فرض واقع سكاني جديد، ولا سيما أن الأم الفلسطينية لطالما حملت على عاتقها أصعب المسؤوليات، إذ يحيط بها الشهداء من كل مكان، فقد تكون أمًّا لشهيد أو زوجة شهيد أو ابنة شهيد أو شقيقته أو كل ذلك معًا.

ولعل الملفت في موضوع السكان أن نسبة الإخصاب لدى الغزاويات تعتبر العليا في فلسطين كلها، فهذه البقعة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 1.3% من مساحة فلسطين، تعتبر الأقوى نموًّا في عدد السكان بالرغم من الحصار وانخفاض الأمن الغذائي والنزوح والحروب المتتالية، ووفقًا لإحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فإن عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة وأراضي الـ48 زاد على عدد اليهود بنحو 200 ألف نسمة في 2022، إذ بلغ نحو 7,1 ملايين نسمة مقابل 6.9 ملايين يهودي.

     رفض إسرائيلي أبدي لحق العودة الفلسطيني

واللافت أيضًا أن هذه الغلبة الفلسطينية في عدد السكان، جاءت رغم خطط وضعتها حكومات الاحتلال منذ اغتصابها أرض فلسطين لتشجيع النساء الإسرائيليات على الإنجاب وعلى الأخص من الطائفة المتدينة (الحريديم)، وذلك لترجيح كفة عدد اليهود، فضلا عن التشجيع على الهجرة إلى فلسطين من مختلف دول العالم مقابل رفض أبدي لعودة أبناء الشتات الفلسطيني البالغ عددهم نحو ثمانية ملايين، إلى أراضيهم.

أمام هذه المعطيات فإن السلاح السكاني ما زال يشكل تهديدًا وجوديًّا للكيان الصهيوني، وهو تحدّ خطير أمام يهودية الدولة، التي تريد أن تكون يهودية خالصة، فأكبر هواجس المحتل أن يتحول اليهود إلى أقلية في فلسطين، وهذا الهاجس أصبح يتزايد مع ارتفاع معدلات الهجرة العكسية من الأراضي المحتلة إلى دول أوروبا بعد السابع من أكتوبر.

والواقع يقول إن كل الأحزاب اليهودية سواءً المتطرفة أو المعتدلة تتفق على مبدأ واحد لا جدال فيه يؤكد أن لا حقوق للفلسطينيين حتى وإن كانت الغلبة لهم في العدد، وأنه يجب وضع سيناريوهات لمواجهة  هذا الخطر عبر عدة حلول، أهمها عزل مناطق الضفة الغربية عن بعضها عن بعض وتحويل حياة الفلسطينيين فيها إلى جحيم، والمد الاستيطاني على أراضي الضفة الغربية، كل ذلك لدفع هؤلاء إلى الخروج من أراضيهم والضغط على الدول المحيطة لقبولهم لاجئين، وزادت هذه النبرة خلال العدوان على غزة ومحاولة إبادة سكانها، وتكشفت بشكل واضح بالطلب من تلك الدول ولا سيما مصر والأردن قبول الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية على أراضيها، لكن تلك الخطط  جوبهت برفض قاطع من كلتا الدولتين.

ولعل هذا الهاجس القديم المتجدد كان بارزًا فيما قالته غولدا مائير التي تولت رئاسة الوزراء في إسرائيل فيما بين 1969 و1974 عندما سئلت عن أسعد يوم في حياتها: “أتمنى كل صباح أن أصحو ولا أجد طفلً فلسطينيًّا واحدًا على قيد الحياة”، ليعود نتنياهو ويصف أبناء فلسطين بأنهم أبناء الظلام وأبناء اليهود بأنهم أبناء النور.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان