هل تفقد أمريكا الحرية الأكاديمية بسبب العدوان الاسرائيلي على غزة؟!!

الحرية الأكاديمية من أهم ما افتخر به الأمريكيون على العالم طوال القرن العشرين، وقد جذبت هذه الحرية أفضل الباحثين والعلماء للعمل في الجامعات الأمريكية، فهي أهم عناصر التقدم العلمي، وإنتاج الأفكار الجديدة، وترتبط هذه الحرية باستقلال الجامعات، ومنع تدخل الحكومة أو أيّ جهات خارجية في شؤونها.
وأنا اعتقد أن الحرية الأكاديمية من أهم مصادر قوة الولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد وفرت لها الكثير من الاختراعات التي قامت عليها الصناعة، وثورة المعلومات والاتصال، كما أدت إلى بناء صورة إيجابية لأمريكا على مستوى العالم، واستخدمتها في كسب عقول وقلوب الأحرار.
لكن ما حدث في جامعة هارفارد يشكل عدوانا على الحرية الأكاديمية، ويؤكد أن إسرائيل يمكن أن تدمر الثوابت والحقوق التي تقوم عليها الدولة الأمريكية، وأن أمريكا تتجه بسرعة شديدة نحو الانهيار عندما يتم التلاعب بالمبادئ التي تشكل فخرا لأمريكا، وتحافظ على قوتها، وهيمنتها على العالم.
إسرائيل تدمر المبادئ الأمريكية
لنبدأ القصة من أول سطر فيها؛ فمنذ ستة أشهر فقط تم اختيار كلودين غاي أستاذة العلوم السياسية رئيسة لجامعة هارفارد بعد عملية طويلة ومعقدة، حيث بلغ عدد المرشحين للمنصب 600 أستاذ، وهذا يعني أنها تتمتع بمكانة أكاديمية تؤهلها لتولي هذا المنصب الرفيع، وافتخرت جامعة هارفارد بأن غاي هي أول امرأة وأول شخصية سوداء تتولى رئاسة الجامعة، وأن ذلك يعني أن الجامعة تطبق مبدأ المساواة، وأن الكفاءة والإنجاز العلمي والقدرة على تطوير الجامعة أهم معايير الاختيار.
وكانت كلودين غاي قد شغلت منصب عميد كلية الآداب والعلوم في الجامعة، ووصفتها بيني بريستكر وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما بأنها قائدة رائعة تكرس نفسها للحفاظ على التميز الأكاديمي لجامعة هارفارد.
وهناك اعتراف عام من أساتذة الجامعة بشخصيتها القيادية وإنجازاتها العلمية وقدرتها على تطوير الجامعة.
الدفاع عن حرية التعبير
عندما شنت إسرائيل عدوانها على غزة انقسم الطلاب، فشهد الحرم الجامعي مظاهرات مؤيدة لإسرائيل، ومظاهرات ترفض العدوان الإسرائيلي على غزة، كما أصدرت 34 منظمة طلابية في الجامعة بيانا يؤيد الفلسطينيين، تضمن وصف إسرائيل بأنها نظام فصل عنصري، وحمّلها المسؤولية عن كل أعمال العنف وعن اندلاع الحرب؛ لأن إسرائيل أرغمت الفلسطينيين على الحياة في سجن مفتوح، وذكر أن إسرائيل ارتكبت الكثير من المجازر طوال 75 عاما.
وكان من بين المنظمات الطلابية التي وقعت على البيان منظمة يهود هارفارد من أجل التحرير، ودعت هذه المنظمات إلى وقفة حداد في حرم الجامعة على أرواح الفلسطينيين التي أزهقت.
كما أصدر أساتذة جامعة هارفارد بيانا عبروا فيه عن أسفهم بسبب الموت والدمار الناتج عن الحرب الجارية بين إسرائيل وفلسطين. وبالرغم من ضعف هذا البيان فإنه أثار الكثير من الهجوم على الجامعة من وسائل الإعلام وأعضاء الكونغرس، الذين طالبوا الجامعة باتخاذ إجراءات لمعاقبة الموقعين على البيان، وإصدار بيانات واضحة تؤيد إسرائيل.
استجواب الكونغرس لرئيسة الجامعة
تزايد الهجوم على جامعة هارفارد ورئيستها التي تم استدعاؤها لجلسة استجواب بالكونغرس، وعندما سُئلت الرئيسة عن المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعة أجابت بأنها تدخل ضمن نطاق حرية التعبير، فاتُّهمت بمعاداة السامية، وطالب 70 نائبا بإقالتها.
وقد تعرضت بعد ذلك لهجوم شديد، واتهامات بالسرقة العلمية، وعدم الإشارة إلى المصادر في بحوثها بشكل مناسب، وشاركت الكثير من الوسائل الإعلامية في هذا الهجوم، وترديد الاتهامات بدون أدلة.
لكن من الواضح أن الأمر لم يتوقف عند حد الهجوم الإعلامي والتهديدات؛ بل تجاوز ذلك إلى ضغوط أجبرتها على تقديم الاستقالة.
أشارت كلودين غاي إلى أمر خطير حيث فسرت استقالتها بعدم إلحاق الضرر بالجامعة، وعدم إضعاف المؤسسة.. فما الضرر الذي يمكن أن تتعرض له جامعة هارفارد العريقة؟
أصدر أكثر من 700 أستاذ بالجامعة بيانا يرفضون فيه الضغوط التي تتعرض لها رئيستهم، وظل مجلس الجامعة يرفض الموافقة على الاستقالة لكنه اضطر إلى قبولها. لماذا؟!
هل أدرك مجلس الجامعة خطورة التهديدات والأضرار التي يمكن أن تتعرض لها الجامعة، ومن أهمها وقف تمويل الجامعة، وتهديد المتبرعين لها، وهم من أباطرة المال والأعمال، وما مدى سيطرة اللوبي الصهيوني عليهم؟
هناك تقارير توضح أن مجلس الجامعة المكون من 11 عضوا وافق على الاستقالة بكل أسف نتيجة لمطالبة الجهات المانحة، وأعضاء الكونغرس والنظام الأمريكي، بقبول استقالتها، إذ لم تقبل هذه الجهات الاعتذار الذي قدمته غاي.
ومما يؤكد أن الجامعة قد خضعت لضغوط خارجية أن كلودين غاي كتبت في نص استقالتها أن قرارها بالتنحي تم بعد التشاور مع أعضاء مجلس الجامعة، وقالت: أصبح من الواضح أن مصلحة الجامعة أن أستقيل حتى تتمكن من اجتياز هذه اللحظة المليئة بالتحدي الاستثنائي، مع التركيز على الجامعة بدلا من الفرد.
انتصار لإسرائيل.. ولكن!
احتفلت الكثير من المنظمات اليمينية الموالية لإسرائيل باستقالة غاي باعتبارها تشكل انتصارا لها، ودليلا على قوة اللوبي الصهيوني، في حين شعر الكثير من أساتذة الجامعات بخيبة الأمل، ومنهم لورنس سامرز الرئيس الفخري لجامعة هارفارد الذي قال: إنه أصبح يشعر بالاغتراب.
أما كلودين غاي فقالت إنها تعرضت لهجمات وتهديدات شخصية يغذيها العداء العنصري، وإنها كانت هدفا لحملة مستمرة من الأكاذيب والإهانات. لكن أمريكا تفقد اليوم الحرية الأكاديمية وحرية التعبير بسبب انحيازها للعدوان الإسرائيلي، ومشاركتها في جرائم إسرائيل ضد الإنسانية.