أن ترى أنوار القدس من الأردن

أيام في الأردن، وفي سياق الحرب على غزة. هكذا كانت للزيارة أبعاد إنسانية ومهنية تفرض نفسها. ولأن البلد يضم أكبر تجمع للفلسطينيين خارج الوطن المحتل، ويقدر عدد المسجلين منهم لدى “الأونروا” والمعلن من السلطات بعمان بنحو 2,4 مليون نسمة، وإن ظلت الإحصاءات الرسمية غائبة إلى اليوم عن نسبتهم من بين مواطني المملكة وحملة جنسيتها. كما لا إجابة عن السؤال: هل يمثلون نصف المواطنين أم أقل قليلا أم أكثر؟
وحقيقة لم أكن أدرك أن القدس الحبيبة السليبة قريبة، حتى رأيت أضواءها تلوح حينما صحبني صديق إلى حافة طريق فوق مرتفع يطل عليها من العاصمة عمان. كما أنني ذات صباح وبعدما انقشع الضباب عن “الكرامة” بغور الأردن رأيت عمران أريحا. وتذكرت حينها المعركة البطولية التي خاضها الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية في 21 مارس/آذار 1968 لصد عدوان صهيوني، والتي تعد آخر اشتباك خاضه هذا الجيش مع العدو. وهذا قبل تدهور العلاقات بين الدولة الأردنية والمقاومة، وصولا إلى “أيلول الأسود” 1970، وإنهاء أي نشاط فدائي عبر الحدود الممتدة مع فلسطين المحتلة.
ولأنني من أجيال ما زال محفورا في ذاكرتها منذ هزيمة 5 يونيو/حزيران ومعها احتلال الضفة الغربية والقدس، أغنيات السيدة فيروز “جسر العودة” و”راجعون”، فقد اجتاحتني أمام أنوار القدس شحنة وجدانية وتملكتني، ولم أتجاوزها إلا عندما فكرت في هؤلاء الفلسطينيين هنا، كان الله في عونهم، وبلدهم والقدس على مرمى حجر. لكنهم محرومون منها ومن أرضهم وبيوتهم والمقدسات كل هذه السنوات. بل وهم منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول يتابعون على الهواء حرب الإبادة الجارية لأهلهم في غزة، وكذا الضفة.
احتجاج محكوم
بالاحتواء والمرونة
وفي الأردن أيضا حملات مقاطعة للمنتجات الداعمة للصهيونية وللتبرع من أجل غزة، وإن كانت الأخيرة في الأغلب تحت مظلة ورعاية الأسرة الحاكمة والمؤسسات التابعة لها، وبخاصة “الجمعية الخيرية الهاشمية”. أما الشعارات السياسية في الفضاءات العامة بوسط العاصمة عمان فيمكننا ملاحظة أنها لا تخرج كثيرا عن التضامن مع غزة، دون ذكر للمقاومة أو إشادة بها أو تعرض لإسرائيل ووحشيتها.
ولكن الصورة في ملامحها العامة تعكس تعقلا ومرونة ما عند السياسة الرسمية اتجاه التفاعلات الشعبية بعد 7 أكتوبر، مقارنة بسلوك سلطات دول أخرى عاهدت تل أبيب. وفي هذا السياق، استمعت إلى ملاحظات من زملاء صحفيين وباحثين وقادة رأي بمخيمات اللاجئين الفلسطينيين عن أن ما بعد “طوفان الأقصى” يعرف تخفيفا من تشديد القيود على حرية التعبير المناهض للصهيونية وللتطبيع مع تل أبيب الذي حل بالبلاد بعد المعاهدة.
وكان هذا التضييق قد زاد بعد الأزمة بين النظام من جانب والأحزاب المعارضة والنقابات المهنية، وبخاصة المحامين والمعلمين من جانب آخر. وفي 18 سبتمبر/أيلول 2023، أي قبل أيام من اندلاع الحرب في غزة، أصدرت منظمة “هيومان رايتس ووتش” الأمريكية تقريرا عن الأردن تحت عنوان: “الحكومة تسحق الحيز المدني”، لافتة الانتباه إلى حصاد حملة بدأت قبل نحو أربعة أعوام.
من مكتسبات
“طوفان الأقصى”
ترجمت الحالة الناجمة عن “طوفان الأقصى” والصمود البطولي للشعب الفلسطيني ومقاومته نفسها في هذا الالتزام الشعبي شبه التام بالمشاركة في الإضراب العام بعموم الأردن يوم 11 ديسمبر/كانون الأول 2023. وكان بإمكاني وقتها التيقن من فعاليته حتى في مناطق سياحية مثل مدينة “مأدبة”، وإن كانت السياحة بالبلاد قد تضررت من أجواء الحرب في الإقليم بأسره.
كما أسهمت تلك الحالة في إعادة بناء تحالف معارض ومناوئ للتطبيع بين الإسلاميين وخصومهم من قوميين ويساريين. وهو ما تجسده “اللجنة التنسيقية لدعم ومناصرة غزة”. وهو أيضا تطور مفتقد في مصر. وهذا على الرغم من تباين التقييمات حول متانة هذا التحالف وتجذره جماهيريا وقدرته على الاستمرارية بعد أن تسكت المدافع. كما شدت هذه الحالة من عضد وصمود رجال أعمال، وبعضهم من أصول فلسطينية، طالما قاوموا ضغوطا للانخراط في التطبيع، وهو ما لاحظته خلال نقاشات مع عدد منهم.
أحوال المخيمات
وحرب غزة
وعلى صعيد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، البالغ عددها في عموم البلاد نحو 13 ترعاها “الأونروا”، أعادت الحرب في غزة إحياء الهوية الفلسطينية والذاكرة الوطنية بين الجيل الرابع، وانتشلته من الإحباط واليأس إزاء مصير القضية وحاضره ومستقبله في ظل البطالة والتهميش والقيود على العمل السياسي والجمعياتي، وكذا مظاهر البؤس العمراني والمعيشي والخدماتي في معظم المخيمات.
وببساطة أفسحت مكانا للاهتمام الجماعي بما هو وطني، وكان قد تلاشى تحت ضغوط الوضع المعيشي المأزوم والبحث عن حلول خلاص فردي. وفي سياق هذا التحول، جاء السؤال: ولماذا لا يستعاد تاريخ فلسطين في مناهج التعليم التي جرى حذفه منها بعد معاهدة “وادي عربة”؟
صحيح أنه من الصعب إلى الآن تقدير إلى أي مدى استطاع الشباب بالمخيمات ابتداع أشكال تنظيمية جديدة، في ظل حظر عمل الفصائل والتنظيمات السياسية، وكذا الجمعيات الاجتماعية بها. لكن مبادرات للتضامن الاجتماعي تتجاوز ما هو فردي بدأت تشق طريقها إلى الضوء “كنبت أخضر”، وإن كان بحذر، ومع الحرص على عدم التصادم مع سلطة الدولة. ويلاحظ هنا، ظهور حركة فنية بالمخيمات، بمشاركة أردنيين من غير ذوي الأصول الفلسطينية، تنظم فعالياتها، وتقدم سردية مقاومة لنضالات الشعب الفلسطيني ومعاناته.
وربما يجد الفلسطينيون في الأردن في هذا، بعض ما يعوض غياب أي قناة تلفزيونية أو صحيفة تنطق باسمهم. وفي كل الأحوال، أصبح بإمكانهم التعبير في الفضاءات العامة صراحة عن هويتهم الوطنية وخصوصيتها، متجاوزين ميراث فترات كان هذا التعبير محل تحفظ أو غير مرحب به، بزعم أو بهواجس وحساسيات “الطعن في الانتماء للدولة الأردنية والولاء للهاشمية”.
أهل غزة ومخيمهم
الأكثر بؤسا
لا تقتصر مخاوف الأردن رسميا وشعبيا على احتمال دفع الإرهاب الصهيوني بموجة أخرى من اللاجئين من الضفة الغربية في “ترانسفير جديد”، وبعد موجتين عاتيتين في 48 و1967. وأيضا في سياق هياج المستوطنين المسلحين مدعومين بعدوانية جيش الاحتلال.
وهذا فضلا عن إحياء شخصيات صهيونية لمشروع “الوطن البديل”، دون التصريح كثيرا بالعنوان والتسمية، وإن كان “يائيل” نجل “نتنياهو” رئيس الحكومة الإسرائيلية نشر في غضون الحرب على غزة خريطة جغرافية ومعها تعليق: “الأردن هي فلسطين وفلسطين هي الأردن”، فأعاد التذكير بتصريحات مماثلة لوالده وبطيف من الساسة الصهاينة.
ولا تقتصر مخاوف الأردن رسميا وشعبيا من موجة تهجير فلسطينية جديدة على ما قد يجرى في الضفة الغربية، بل تمتد إلى احتمال قدوم مهجرين كذلك من قطاع غزة. وبالأردن ما زال مخيم في منطقة “جرش” يحمل اسم “غزة”. ووفق أحدث دليل إرشادي “لدائرة شؤون الفلسطينيين”، وهي مؤسسة نشأت بعد قرار فك الارتباط مع الضفة عام 1988 على خلاف قرار هاشمي سابق بالضم عام 1951، فإن في هذا المخيم ما بين ثلاثين وأربعين ألف لاجئ. وتذهب تقديرات إلى أن هناك نحو 126 ألف “غزاوي” آخرين خارج المخيمات، وثمة من يقول بأرقام أكبر. وفي كل الأحوال، فإن معظم هؤلاء وأولئك من ضحايا تهجير أول من قرى ومدن فلسطين المحتلة عام 1948.
والمعاناة الأشد وطأة في دولة استطاعت إلى حد كبير “إدماج” معظم اللاجئين الفلسطينيين وأجيالهم اللاحقة بوصفهم مواطنين في المملكة مع إبقاء معظمهم مسجلين لدى “الأونروا”، أن أهل غزة هؤلاء القليل جدا منهم حصل على الجنسية الأردنية. ولذا تظل الأغلبية تعاني أوضاع “الإقامة المؤقتة” في التعليم والعمل، وغيرها من مناحي المعيشة. كما تنخفض أمامهم فرص السفر والاستقرار خارج الأردن. وفي هذا دراسات علمية ومن واقع الميدان والمقابلات، ومن أهمها ما أنجزته الباحثة الدكتورة “عروب العابد” المتخصصة في شؤون اللاجئين الفلسطينيين ومسألة “تأقلمهم” في المجتمعات المضيفة، وحقوقهم وفق المواثيق الدولية.
وفي الأصل فإن آباء هؤلاء “الغزاوين” في الأردن منذ تهجير عام 1967 هم ضحايا رفض السلطات المصرية تحمل مسؤوليتهم، بما كان لها من سلطة وولاية على قطاع غزة قبل ذلك. وثمة وثائق لمكاتبات بين الحكومتين الأردنية والمصرية في هذا الشأن، وفق هذه الدراسات المنشورة. وحتى إمكانية عودتهم إلى القطاع ظلت تصطدم بظروف الحصار والعدوان المستمرين.
هواجس ومخاوف
لا تقتصر مخاوف الأردن الرسمي على أن يجد نفسه أمام المزيد من المهجرين الفلسطينيين، سواء من الضفة أو القطاع، وما قد تحمله هذه الموجة الجديدة معها من أعباء ومشكلات للدولة ولهم، بل هناك ما أصبح ملحوظا من نمو شعبية حركة “حماس” ومعها رد الاعتبار والتقدير للمقاومة المسلحة.
ولا تخلو المظاهرات المنددة بالحرب على غزة أحيانا من رفع أعلام الحركة وصور “أبو عبيدة”. ويفيد استطلاع رأي “لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” بين الأردنيين في نوفمبر وديسمبر 2023 بأن شعبية الحركة ارتفعت إلى 85 في المائة مقارنة بنسبة 44 في المئة عند استطلاع مماثل أجرى عام 2022.
ويفيد تقرير لمسؤول سابق في جهاز المخابرات الأردنية نشره هذا المعهد بتاريخ 22 ديسمبر 2023 تحت عنوان:” ما الذي تعنيه الحرب في غزة بالنسبة للأمن القومي الأردني؟”، بأن لدى السلطات بعمان قلقا إزاء أن يحصد حزب العمل الإسلامي (المحسوب تاريخيا على الإخوان) صعود “حماس” وانتصارها في حرب غزة مكاسب لصالحه في صناديق الانتخابات البرلمانية المقرر في أغسطس/آب المقبل 2024.
ومن جهة أخرى، فإن عودة ثقافة المقاومة المسلحة واحتمالات توسعة الحرب إقليميا وانتشارها تهدد مصالح أمريكا وقواعدها العسكرية في الأردن. وقد نبه التقرير المشار إليه سابقا إلى تسلل خطاب التحريض ضد المصالح والقواعد الأمريكية حتى إلى الإعلام الرسمي وقنواته التلفزيونية.
احتواء صعود
شعبية “حماس”
لا أحد يجزم بمصير الأمور وإلى أين تذهب؟ لكن الملك “عبد الله الثاني”، وكأنه يسابق الزمن لمنع تدحرج كرة النيران إلى داخل بلاده، نشر مقالا في “الواشنطن بوست” يوم 19 نوفمبر الماضي بعنوان: “حل الدولتين سيكون انتصارا لإنسانيتنا المشتركة”. وهو ما يفيد انضواء عمان ضمن ما يبدو حاليا من “اتفاق أمريكي سعودي” على إعادة إنتاج الحديث عن هذا الحل، مقابل المضي في التطبيع، مع ضبابية المواقف من استمرار الاستيطان في الضفة الغربية وقضايا القدس وعودة اللاجئين وتعويضهم، وكذا استئناف خيار النظام الرسمي العربي مصادرة حق المقاومة المسلحة وتجريمها وملاحقتها.
لكن وفي الوقت نفسه، يتضح أن من البدائل المطروحة بالأردن للتفاعل مع نمو شعبية “حماس” ما يجرى تداوله في الكواليس عن دراسة فتح مكتب للحركة، مقابل شروط والتزامات تجنبا لتكرار أزمات سابقة. ومع هذا، فليس من السهل الجزم بما سينتهي إليه هذا التفكير أيضا.
الجرح المفتوح
لكن المنسي
تنكأ مأساة ومعاناة نزوح نحو 2 مليون داخل غزة بضغط من حرب الإبادة الصهيونية الجرح الغائر النازف لقضية اللاجئين الفلسطينيين في مختلف أنحاء العالم، الذين يناهز عددهم اليوم 7,3 ملايين، وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
لكن هذه المأساة الحية والمستمرة منذ 1948، التي تزايد عدد ضحاياها انطلاقا من 750 ألفا في نكبة 48، لا يبدو أنها تقابل عربيا ودوليا بالاهتمام الواجب، واستلهاما لما يجرى بعد 7 أكتوبر 2023. ونفتقد إلى اليوم مبادرة تطرح من جديد وبقوة ملف العودة والتعويض معا وفق قرار الأمم المتحدة رقم 194، وبمقتضى المواثيق الدولية. وهي حقوق لا تسقط بالتقادم أو تنازل أي سلطة مهما كانت أو ادعت تمثيلها للشعب الفلسطيني وقضيته، أو مصالح نظام رسمي عربي تزداد الفجوة بينه وبين الشعوب.
من الأردن تبدو القدس قريبة جدا على الرغم من بعد تصنعه قصور حكم ومصالح قوى اجتماعية وسياسية، وخبياتها أيضا.
ولعل في السطور السابقة ما يذكر بما لا يمكن نسيانه أمس واليوم وغدا.