اللحظة الأكثر قلقًا في مصر!

هي اللحظة الحالية، وهي ليست وليدة لحظة آنية، بل هي تراكمات العقد الأخير، أو منذ 2011، (لا أتهم ثورة يناير)، ولمزيد من التدقيق فإنها تعود إلى عقود مضت منذ إزالة النظام الملكي وتأسيس النظام الجمهوري.
مصر لا تسير في طريق طبيعي منذ ثلاثة أرباع قرن، لم تؤسس بطريقة علمية ومُحْكَمة ومدروسة مشروعها التنموي الذي كان يجب أن ينقلها إلى مكانة لائقة باسمها ودورها وتاريخها وجغرافيتها وإرثها الحضاري وكثافة عدد سكانها وطبيعة موقعها في الإقليم الذي توجد فيه والتحديات التي تواجهها وتحيط بها والريادة التي تستحقها، وذلك بما تقدمه من أداء ملموس للنهوض الجاد على كافة المستويات، وليس بما يتم صكه ورفعه من شعارات لا توفر الخبز الحافي ولا تجد صرفًا في سوق العملات الدولية.
نعم، لم يمر عهد في الجمهورية دون مشاكل وأزمات، ومشقة عيش وحياة، وضيق أفق سياسي، واحتكار سلطة، فكانت البلاد تنام ليلها وتنتظر الفرج في نهارها، ونتفهم ما تسببه الحروب والمغامرات الخارجية من تكاليف وأعباء على الاقتصاد والمعيشة وما تفرضه من أحادية السياسة وفردية الحكم وتقييد الرأي، ومع هذا كانت مراكب الحياة تسير في مياهها، وكان الناس يحيون بنوع من الأمان، رغم أنهم يواجهون معاناة، ويتقلبون على بعض لهب يتحملونه صابرين انتظارًا للوعود الآتية، التي لم يتحقق منها شيء.
أوضاع تتغير جذريًّا
وُلدت في الستينيات (عهد عبد الناصر)، وترعرعت في السبعينيات (عهد السادات)، وكبرت وعملت وفهمت في أطول عهود الجمهورية حتى الآن (عهد مبارك)، وتفاعلت مع ثورة يناير أحد أهم أحداث مصر في تاريخها، وأعيش ما بعدها من عهد جديد هو استمرار لطبيعة الحكم والسياسة كما كانت قبل يناير، ولكن هناك اختلافات واسعة وحادة بينه وبين كل ما سبقه، ولهذا تختلف الأزمة اليوم شكلًا وطبيعة ووضعًا عما كانت عليه، وهنا السياسة والاقتصاد والحياة والمعيشة والأوضاع العامة كلها تتغير جذريًّا.
اللحظة الحالية التي اعتبرها أكثر قلقًا وأشد خطرًا ربما تكون غير مسبوقة بهذا الشكل طوال تاريخ الجمهورية، وهي جمهورية واحدة، قديمة وأصيلة، أما استحداث جمهورية جديدة ورفعها شعارًا فهذا من علامات الاستغراق في الشكل، ومخاصمة المضمون، والسقوط في أفخاخ الدعاية والمظهرية والاستعراض بدل الصعود إلى سطح الأرض، ودراسة الواقع، وإدراك تعقيداته، والتعامل معه بحكمة وتأنٍّ وتركيز دون إفراط أو مبالغات تقود إلى المحظور الذي نتدحرج فيه.
اهتزازات عنيفة
العهد الحالي من تاريخ الجمهورية اختلف عما سبقه كثيرًا، هو نفس المسار في حكم الفرد، لكنه ازداد في الأحادية والفردانية، وصار حُكمًا مطلقًا مكتملًا، وإذا كانت السياسة قادت الاقتصاد إلى مواجهة مطبات ومنعرجات طوال العهود السابقة، فإنه اليوم يواجه حفرا عميقة واهتزازات عنيفة وصعبة. وقد وصف أحد الإعلاميين المتلونين (عمرو أديب) هذا العام 2024 بأنه مخيف، والبرلمان عندما هاجم وزير التموين مؤخرًا فإن المساءلة موقف جاد تأخر طويلًا، لكنه اختار الحلقة الضعيفة ليصوب سهامه إليها بشأن أزمات الغذاء المستحكمة، وهو موقف يبدو أنه مخطط وأدواره موزعة لمحاولة إبعاد نتائج الأزمة عمن تسببوا فيها ويجب أن يتحملوها، ولهذا قال الوزير القادم من نظام خلعته ثورة يناير إن الأزمة مسؤوليتنا جميعًا، والإشارة مفهومة هنا.
مصر في عهودها الثلاثة السابقة ليناير شيء، ومصر في عهدها الرابع بعد يناير ويونيو 2013 شيء آخر مختلف في منسوب القلق، ومستوى الخوف، وضبابية الحاضر، وعتمة المستقبل، وغياب اليقين، وتلال الأزمات، والبلد لم يعد ينام بعد عشائه في انتظار الفرج في نهاره، بل إنه لا ينام، فالأوضاع متغيرة من ساعة إلى أخرى، ولم تُعد تُدار يومًا بيوم، بل المتحكمون في البلد والأسواق يُديرونها ساعة بساعة، وربما لحظة بلحظة.
الجنيه الضعيف
وأنا أكتب هذا المقال منزعجًا من واقع شديد الإيلام كان الدولار الواحد يُباع بـ62 جنيهًا في السوق السوداء، الموازية، الحرة، في حين أن سعره الرسمي في البنوك 31 جنيهًا، أو أقل قليلًا، وهنا يكون الفارق بين السوقين؛ الرسمية وغير الرسمية، 31 جنيهًا، أي الضعف بنسبة 50%، وهذا لم يحدث طوال تاريخ التعامل بالدولار في مصر، ولا بعد الانفتاح الذي وصفه البعض بأنه “سداح مداح”.
ولم تكن السوق الموازية أقوى وأشرس من السوق الرسمية كما هي اليوم، وسوق العملة في البنوك أصبحت غالبًا اسمية فقط، فلن تحصل على دولار ويورو إذا طلبته، والمستوردون والتجار والصناع ينتظرون طويلًا لا لتدبير المبالغ التي يطلبونها، وإنما بعضها، أو قليل منها، ولهذا تنشط السوق الحرة وتقوم بتعويم الجنيه أو تحريره، وهنا لا ننتظر تحريرًا بقرار من البنك المركزي، وإنما عمليًّا التحرير حاصل وقيمة الجنيه الحقيقية هي ما يتم تداوله في السوق الموازية.
ونزيف تراجع العملة الوطنية مستمر دون توقف، وإذا كان أكثر المتشائمين قد اعتبر أن الدولار لن يصل إلى 50 جنيهًا في يوم قريب، فإنه حاليًّا يقفز إلى ناحية مئة جنيه، وهذه كارثة حقيقية على كل جوانب الحياة.
أسعار ساعة بساعة
وتقدير الأسعار كلها من علبة الكبريت والإبرة حتى السيارة والعقار يتم وفق سعر الدولار في السوق الحرة التي تفوقت على السوق الرسمية وصارت هي التي تتوفر فيها طلبات الراغبين في الحصول على نقد أجنبي للاستيراد أو الاستثمار أو التخلص من الجنيه الضعيف.
وأسعار السلع والمنتجات لا تستقر ليوم واحد فقط، ولا لعدة ساعات، بل تتغير من ساعة إلى أخرى، إذ إنه برنين هاتف تتم زيادة السعر، وبرنين آخر يتم إيقاف البيع.
وفي ظل الأزمة المعقدة تسود الأسواق الفوضى دون قدرة حكومية على ضبطها أو حتى تهدئتها لأن الحكومة نفسها عاجزة عن تقديم أي حلول لإبطاء الأزمة، وليس لعلاجها ولو جزئيًّا. مطلوب فورًا تغيير جذري في السياسات العامة لمحاولة الإنقاذ.