“سلالم الصحفيين”.. دَرَج الصعود إلى أسفل

يبلغ عددها ستة عشر وعرضها نحو خمسة عشر من الأمتار الطولية، وهي ليست أثرية، لكنها أثيرة لدى أولئك الباحثين عن لفت الأنظار والتعبير عن آرائهم علنًا أمام الكاميرات المفتوحة، كما أنها شهيرة في وسائل الإعلام القديمة والجديدة.
تحمل سلالم مبنى نقابة الصحفيين المصريين بوسط القاهرة دلالات رمزية كبيرة تتجاوز مساحتها الصغيرة، كما أنها تعبّر عن أفق ممتد بلون السماء رغم مظهر رخامها الأسود، وهي حمالة رسائل في كل الاتجاهات رغم أنها لا تنتمي إلى هيئة البريد.
في وسط العاصمة المصرية يمتد شارع “عبد الخالق ثروت” وهو اسم لسياسي مصري كان أول مدعٍ عام سنة 1912 بترشيح من سعد زغلول الذي كان وقتها وزيرًا للحقانية (العدل)، ثم تولى ثروت وزارات الحقانية والداخلية والخارجية، كما ترأس الوزارة مرتين بين عامي 1922 و1928.
وفي وقت توليه منصب المدعي العام تعرّض لضغوط كبيرة لمحاكمة أحمد لطفي السيد الذي عُرف بـ”أستاذ الجيل” حيث رأس تحرير صحيفة “الجريدة” وكانت ذات توجهات مؤيدة للحريات ومدافعة عن سيادة القانون، لكن عبد الخالق ثروت رفض أي ضغوط لإجراء محاكمة للطفي السيد بسبب مواقفه المؤيدة للحريات العامة. كما اشتهر ثروت بأنه منع المستشار المالي الإنجليزي للحكومة من حضور جلسات مجلس الوزراء المصري.
شارع الحرية
ويعرف المصريون عبد الخالق ثروت الآن بأنه الشارع الذي يضم نقابة الصحفيين التي يجاورها مبنيان أثريان، أحدهما لنقابة المحامين من جهة، والآخر لنادي قضاة مصر من الجهة الثانية.
وقد عُرف هذا الشارع باسم “شارع الحرية” في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك بعد نشأة “حركة كفاية” في 2004 وبعد احتضان المؤسسات المهنية الثلاث لفعاليات معارضة كثيرة، وبعد أن أصبحت “سلالم الصحفيين” التي تتوسط القضاة والمحامين مظهرًا من مظاهر ممارسة الحرية دون قيود صارمة على التعبير تتعرض لها أماكن أخرى في عموم مصر المحروسة.
ورغم أن أول تجمُّع لحركة “كفاية” كان أمام دار القضاء العالي فإن ارتباط رموزها بالمشاركة في المظاهرات التي تستضيفها نقابة الصحفيين جعلها مكانًا مفتوحًا للمظاهرات المعارضة للنظام القائم وقتها والذي كان يتسع صدره قليلًا لاستيعاب التعبيرات الغاضبة والأصوات الناقمة والراغبين في تغييره وإسقاطه.
التكفين دون موت
ولسنوات كانت سلالم نقابة الصحفيين أشهر “هايد بارك” متاح في قلب القاهرة، ولأن كل دور إذا ما تم ينقلب، فقد شهدت ساحة الحرية الصغيرة في قلب القاهرة تكفينًا لواجهة نقابة الصحفيين نفسها وتعطيلًا لدورها بدواعي جائحة “كورونا” مرة، وبداعي وجود أجزاء آيلة للسقوط في المبنى مرات أخرى، وهو ما استلزم من القائمين على أمر تقييدها وضع “سقالات” لاستخدام عمال الترميم، مما جعل مجرد الدخول للمبنى عملية صعبة وسط سرداب من آثار الهدم ومواد البناء مع تعطيل العمل لسنوات حيث أصبحت النقابة مجرد مبنى مهجور قبيح في المعنى والدلالة أيضًا.
كانت النقابة مغلقة ومريحة لأجهزة ومؤسسات عديدة، إذ جنبها هذا الإغلاق صداع الوقفات وصرخاتها وإزعاج الهتافات ورمزيتها، وإرباك المطالب المشروعة، الممكنة وغير الممكنة.
لكن الإغلاق المريح في جهة كان مهينًا لمهنة تعيش بالاشتباك، وتتنفس بالنقاش والحوار الذي صار “العشق الممنوع” في نقابة الصحفيين المصريين التي تتسم جمعيتها العمومية بالتنوع والاختلاف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن عابري الأيديولوجيا إلى المتخندقين وراءها، ومن نخبة النخب الى عوام العوام.
إن هذا التنوع فرض على النقابة تعايشًا مع الحالات التي تدور في فلكها حيث يكون المبنى ملتقى للجميع وليس “جيتو” لفصيل دون آخر، كما جعل مهمة النقابة الأساسية الحفاظ على قيمة الاختلاف، وليس إسكات النقاش أصلًا ومنعه جبرًا إلى حد إغلاق المبنى ورفع المقاعد من أدواره رفعًا لشعار “لا جلوس ولا كلام”.
وعندما أُجريت انتخابات التجديد النصفي لمجلس نقابة الصحفيين في مارس/آذار الماضي، فاجأت النتيجة الجميع من كل الاتجاهات ومن أجهزة الدولة التي كانت تحرص على إدارة المشهد الانتخابي بتدخلات ناعمة سرية وعلنية.
وأبت الجماعة الصحفية إلا أن تكون النتيجة معبرة عن رغبتها في أن تخرج من حالة الموات التي فُرضت عليها في مواسم السكوت الإجباري، وأن تستعيد المبنى والمعنى بعد أن جاءت الانتخابات بنقيب وأعضاء ينتمي معظمهم إلى فئة “المغضوب عليهم” أمنيًّا.
غزة تعيدها إلى الواجهة
وعندما اندلعت شرارة العدوان على قطاع غزة المتاخم لحدود مصر الشرقية، كانت فرصة منطقية لاستعادة سلالم النقابة لدورها الرمزي في قضية تتسم بتوافق واسع بين عموم المصريين وبانسجام معقول بين المواقف الرسمية والشعبية.
فرغم أن “مصر الرسمية” لديها علاقات مع الكيان الصهيوني فإن “مصر الشعبية” تتخذ موقفًا حازمًا من التطبيع مع “إسرائيل”، ويبدو دون إعلان أنه لا ضغوط حكومية على أي مؤسسة مدنية من أجل علاقات عادية مع دولة انخرطنا في حربها عقودًا وبيننا وبينها ثأر ودم.
بدأ العدوان الصهيوني على غزة، وكان طبيعيًّا أن يعبّر صحفيون ودائرون حول حماهم من الناشطين عن غضب بحجم الجريمة، والإبادة الجماعية والمحرقة، التي استهدفت النساء والأطفال، وخلفت نكبة جديدة لشعب قدره أن يشاهده العالم وهو يُذبح، دون أن ينتفض ضمير رعاة إسرائيل في الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن هناك غير “سلالم النقابة” حيث الجغرافيا المحدودة سهلة السيطرة بالنسبة للأجهزة الأمنية، وحيث يمكن إغلاق الشارع في دقيقة وحصار المتظاهرين وحصرهم في مساحة ضيقة.
دومة مرة أخرى
وفي مظاهرة محدودة نسبيًّا بمناسبة مرور مئة يوم من العدوان الإسرائيلي على غزة، حضر الناشط أحمد دومة الذي خرج قبل أربعة أشهر من محبسه بعفو رئاسي بعد نحو سنوات عشر خلف القضبان، وردد وسط العشرات هتافات مطالبة بفتح معبر رفح المصري أمام المساعدات المكدسة بين رفح والعريش بشمال سيناء، مثيرًا عاصفة من الحنق شبه الرسمي، ركزت على هتافات دومة وكررتها وأسمعتها لمن لم يسمع وأعلمتها لمن لم يعلم، وجعلت منها مكلمة وساحة للنضال ضد “أعداء البلاد”.
وإذا راجعنا هتافات دومة فسنجد أن معظمها معتاد ومكرر، لكن أحدها لفت الأنظار إليه بشدة عندما قال “طول ما الدم العربي رخيص.. يسقط يسقط أي رئيس”، ودون أن يذكر اسم رئيس الجمهورية أو يخصص الهتاف لرئيس مصر فإن سدنة الإعلام المحسوبين على النظام أطلقوا رصاصات كلماتهم لا على دومة وحده، ولكن على نقابة الصحفيين أيضًا، دون اعتبار أن هتافًا عابرًا كان ممكنًا أن ينطبق عليه التعبير الشعبي المصري “هتاف يفوت ولا حد يموت”.
وقد رأى بعض الإعلاميين أن دومة “مجرم ومحرض ضد الأمن القومي المصري”، كما أن خروجه بعفو رئاسي كان يجب أن يجعله يحفظ ما وصفوه بأنه مكرمة من القيادة السياسية.
عليه الرحمة!
يترحم كثير من الناشطين السياسيين -ولو تندرًا- على عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي أجبرته ثورة 25 يناير 2011 على التنحي، وذلك عندما يدور نقاش بشأن أجواء حرية الصحافة وأفق السياسة في العهد الحالي.
وبينما تظل لسلالم نقابة الصحفيين قيمة إنشائية في معمار البناء كوسيلة للصعود ودخول المبنى، فإن أحدًا -على ما يبدو في “مصر الرسمية”- لا يريد لها أن تحلم بأن تكون دَرَجًا للصعود إلى مزيد من توسيع هامش الحرية واستيعاب الانفلات الذي قد يصاحب ذلك عرَضًا.
الحاصل أن جوقة تكتنز الملايين من صراخها أمام الشاشات لا تريد فقط لسلالم النقابة أن تكون تكئة لجذبنا إلى الوراء خطوات وخطوات في طريق الحرية الطويل، وأن يُقَد قميصُ التعبير السلمي من دبر في تحرش لا يليق بمن يرفعون شعارات الشرف والوطنية، وهم يتاجرون بكليهما بحق انتفاع حصري.
الرسالة الأخيرة من رد فعل مبالغ فيه ومفتعل على هتاف من ناشط محدود الشعبية والأثر خرج لتوه من تجربة قاسية لبث خلالها في السجن سنين عددًا، يؤكد أن هناك من يريدون بوضوح أن تكون “سلالم النقابة” دَرَجًا لا للصعود، وإنما للسقوط إلى أسفل.