يناير بين ثورتين

ثورة يناير (منصات التواصل)

يسيطر الآن في مصر حديث الأزمة الاقتصادية الخانقة حيث تكوي بلهيبها الجميع، وتطحن بالخصوص الطبقات المعدمة والمحدودة والوسطى، بل ويمكن القول إنها طالت عائلات كانت ميسورة، وعشية الذكرى الـ13 لثورة 25 يناير وقبلها بأيام الذكرى الـ47 لانتفاضة 18و19 يناير 1977 تشتد وتيرة الحديث عن المجريات التي آلت إليها الأمور.

الفارق الزمني بين الحدثين أكثر من 30 عامًا، وبينهما العديد من القواسم المشتركة وإن تباينت النتائج، كلاهما شهد فصلًا من الصراع بين السلطة الحاكمة والشعب بأطيافه السياسية والاجتماعية المتنوعة، فيما لعبت مؤسسات الدولة (الجيش والشرطة على وجه الخصوص) دورًا حاسمًا في ترجيح كفة أحد الطرفين، وكما أن السلطة تسعى دومًا للحيلولة دون تكرار ما جرى فإن الذاكرة الحية للشعوب تستلهم الدروس وتحتفظ بخبراتها المتراكمة أملًا في تحقيق مبتغاها يومًا بأن تحيا وفق شعارها الأثير (عيش- حرية -عدالة اجتماعية).

في الانتفاضة الأولى اندلعت المظاهرات على إثر إعلان الدكتور عبد المنعم القيسوني نائب رئيس الوزراء للمجموعة الاقتصادية أمام البرلمان في 17 يناير حزمة قرارات اقتصادية تتضمن رفع الدعم عن بعض السلع الضرورية، حيث أصبحت أنبوبة “البوتاجاز” بعد الزيادة 95 قرشًا، وزادت السجائر 20 مليمًا، وكيلو السكر زاد 10 مليمات، ومثله الأرز، وزاد سعر البنزين ما بين 18 و25 مليمًا، هذه الزيادات التي قد تبدو اليوم هزلية كانت في وقتها تمثل أرقامًا كبيرة، وعكست شعارات المتظاهرين رفض القرارات التي لم تُنْتِجَ سوى مزيد من الجوع والفقر، كما عكست الفوارق الطبقية وتعارض المصالح مع بداية ظهور فئة رجال الأعمال ومن أطلق عليهم “القطط السمان” قبل أن يتحولوا إلى ديناصورات متوحشة في عهد مبارك.

كادت الانتفاضة أن تنجح في الإطاحة بالرئيس السادات، لكنه نجح بدهاء في تخطيها باتخاذه خطوات إلى الوراء لامتصاص الغضب الشعبي، وهو ما لم يفلح فيه خلفه حسني مبارك، والمفارقة أن الأخير حرص على تفادي الفخ الذي وقع فيه سلفه وحافظ على “شعرة الدعم” قوية فيما يخص الخبز والسلع الغذائية الأساسية، وظل يفاخر بقدرته على المراوغة ورفضه التجاوب مع مطالبات صندوق النقد الدولي، لكنه لم يتعامل مع ضربة الشعب بالكياسة اللازمة، وكانت دائمًا خطوات الشارع المتصاعدة تسبق قراراته، وبينما سبق أحداث يناير الأولى تشكيل برلمان 1976 بانتخابات حقيقة لم تشهدها البلاد منذ يوليو 1952، فإن برلمان 2010 كان من أسباب انفجار الموقف في المرة الثانية خاصة وأن مبارك ترك العنان لوريثه المتعجل في إعادة ترتيب المشهد وهندسة الخريطة السياسية بما يناسب طموحه في تهيئة الأجواء لجلوسه على العرش، والأسوأ أن مبارك بـ”عناده” استهان بالقوى السياسية كافة، وسخر منهم بتعبيره الشهير (خليهم يتسلوا).

موقف متباين للشرطة المصرية

يسجل التاريخ موقفًا وطنيًا اتخذه اللواء سيد فهمي وزير الداخلية، لكنه لم ينل ما يستحق من التقدير، حينما رفض تنفيذ توجيهات الرئيس السادات بمواجهة المظاهرات بالذخيرة الحية، وآثر التضحية بمنصبه على أن يحمل إثم إراقة دماء أبناء الشعب على يد رجال الشرطة، وقد تمت إقالته بالفعل في 2 فبراير بتهمة التراخي في مواجهة المخربين (اتساقًا مع تسمية السادات للأحداث بانتفاضة الحرامية)، وبحسب اللواء حسن أبو باشا الذي كان رئيسًا لجهاز أمن الدولة قبل أن يصبح وزيرًا للداخلية فيما بعد فإن ممدوح سالم -رئيس الوزراء- اعترف له شخصيًا وقتها بأن إقالة  فهمي كانت مجرد كبش فداء، حيث سبق للأجهزة الأمنية أن حذرت من رد الفعل الشعبي الغاضب للقرارات قبل صدورها رسميًا، وبحسب شهادة القيادي اليساري أحمد بهاء الدين شعبان أحد المتهمين في أحداث 77 فإن الشارع لم يكن في خصومة مع الشرطة، فلم يكن لديهم وقتها عمليات تعذيب وجهاز أمني شرس كما هو الحال في نهاية عهد مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي، الذي شكّل أحد أهم أسباب الاحتقان، فقد خرجت الجماهير في 25 يناير مطالبة بإقالة وزير الداخلية وتطهير الجهاز الأمني خاصة بعد مقتل الشاب خالد سعيد على يد بعض المخبرين، ومقتل السيد بلال تحت التعذيب لإجباره على الاعتراف بتفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية في أول يناير، ولعله ما زال حاضرًا في الأذهان كيف تعاملت الأجهزة الأمنية بعنف مميت تجاه المتظاهرين وقد سقط عشرات القتلى والمصابين، لكن المدهش أنه مع (مهرجان البراءة للجميع) خرجت قيادات الشرطة وضباطها كافة دون إدانة، وعلى رأسهم الوزير العادلي واللواء حسن عبد الرحمن رئيس جهاز أمن الدولة.

الجيش بين الجمسي وطنطاوي

الدور الأهم تمثل بلا جدال في موقف المؤسسة العسكرية، ففي عام 77 كان الجيش خارجًا للتو من معركة الكرامة وتحرير الأرض، ولم يكن له اختلاط بالحياة المدينة ولم يمارس أي نشاط تجاري، كما أن وزير الحربية (وفق المسمى القديم) المشير عبد الغني الجمسي كان مشهودًا له بالانضباط والالتزام بـ”التراتبية العسكرية” وطاعة الأوامر حتى لو لم يوافق عليها (أشار بنفسه للعديد من نقاط الاختلاف مع السادات أثناء مفاوضات فض الاشتباك مع العدو) فضلًا عن سماته الشخصية إنسانًا زاهدًا قضى جل عمره في المعسكرات وعلى الحدود وخاض الحروب كافة ضد العدو منذ انخراطه في الجيش، وفي مذكراته التي صدرت تحت عنوان “ذكريات في الجيش والسياسة” يروي الجمسي أنه رفض طلبًا من ممدوح سالم بنزول الجيش مؤكدًا أنه ينتظر الأمر مباشرة من الرئيس شخصيًا، وهو ما كان حيث طلب من السادات إلغاء قرارات رفع الأسعار أولًا قبيل إصدار القرار بنزول الجيش إلى الشارع، ووافق الأخير مرغمًا ولكنه أضمرها في نفسه حتى أقال الوزير في أكتوبر 78، أما المشير حسين طنطاوي فقد كان منزعجًا من مظاهر التوريث، ومساعي الابن لدى الأمريكان لم تكن بعيدة عن عيونه وعبّر عن رفضه لصعود أحمد عز (الذراع الأيمن لجمال مبارك)، وقد نقل الدكتور مصطفى الفقي مستشار الرئيس مبارك أن طنطاوي استبقاه في إحدى المناسبات ليقول له عن أحمد عز هل هذا الذي سيحكم مصر؟!!!

أخيرًا يبقى الإشارة إلى القوى السياسية الفاعلة في الشارع، خلال انتفاضة الخبز كان اليسار بأطيافه كلها هو نجم الساحة، وحضوره كان مكثفًا في صفوف الحركات العمالية وطلاب الجامعات، وتزعموا الحراك ضد السادات واعتبروه منقلبًا على الخط الاشتراكي الذي أرسى دعائمه جمال عبد الناصر، وقد ظلوا يجترون حديث الذكريات وهم يعضون أصابع الندم على ضياع فرصة الإطاحة برأس النظام والصعود لسدة الحكم، ومن ثم وصفوا الانتفاضة بالثورة “المنقوصة”، ولعله من المدهش أن اليساريين عابوا على تيار الإسلام -وبخاصة الإخوان- غيابهم عن تلك الانتفاضة حيث لم يتم القبض على أي من قياداتهم أو كوادرهم حسب شهادة القطب اليساري كمال خليل في كتابه “حكايات من زمن فات”، لكنهم وصفوا 25 يناير بالثورة “المخطوفة “بسبب مشاركة الإسلاميين فيها بدعوى أن الإخوان ركبوها”.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان