اليوم التالي لما بعد إسرائيل

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (غيتي)

لا أجد مبررًا أمام العالم العربي، إعلاميًّا وسياسيًّا، في عدم تناول الطرح الأهم على الإطلاق، وهو المتمثل في “شكل منطقة الشرق الأوسط والعالم في اليوم التالي لزوال الكيان الإسرائيلي”، وذلك في مواجهة الطرح الصهيوني المتمثل فيما يطلقون عليه “اليوم التالي للحرب” أو الافتراض الوهمي المتداول حول “غزة فيما بعد حماس”؛ ذلك أن طبيعة الأشياء هي زوال الاحتلال، وليس زوال أصحاب الأرض، كما أنه من الطبيعي أن تنتصر حركات التحرر الوطني، كما هو الحال في كل أنحاء العالم، فضلا عن أن انتصار المقاومة الفلسطينية أصبح واقعًا لا يقبل التشكيك سوى في أروقة الكيان لأسباب نفسية ليس أكثر.

كتب التاريخ تذكر أن فلسطين فيما قبل الاحتلال عام 1948 كانت الدولة الأكثر رفاهية في المنطقة، اجتماعيًّا وتجاريًّا بشكل خاص، كما تذكر أيضًا أن الأوضاع كانت مختلفة في كل دول المواجهة، حيث كانت مصر الأكثر تقدمًا صناعيًّا وزراعيًّا حتى ذلك التاريخ، وكان لبنان الوجهة السياحية، وسوريا الوجهة الاقتصادية، والأردن الوجهة التراثية، إلى أن كان ما كان من احتلال صهيوني لفلسطين، ومن بعدها أراضٍ أخرى في كل من مصر وسوريا والأردن، تراجعت معه المنطقة إلى العصور الوسطى، وما زالت تبعات ذلك الاحتلال تلقي بظلالها حتى الآن، تستنزف ثروات دول الشرق الأوسط بشكل عام، خصوصًا في عمليات التسليح، حيث لا أمن ولا استقرار.

الهلع الذي يصيب الكيان

كل شواهد الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد، تؤكد أن الأجدر بالمناقشة والبحث هو وضع المنطقة فيما بعد اليوم التالي لزوال كيان الاحتلال، وهو الهاجس الذي لا يفارق سكان الكيان أنفسهم هذه الأيام، خصوصًا في وجود نصوص توراتية ونبوءات تؤكد ذلك، بما يعني أنهم يواجهون القدَر، وليس المقاومة الفلسطينية فقط، ذلك أن كيانهم أُنشئ بوعد بلفور، أما زوالهم فهو وعد الله، مما يزيد من حدة الضغوط عليهم، سواء على مستوى الأفراد، أو الجماعات، من الطوائف السياسية والدينية المختلفة، فضلا عن الرأي العام.

ليس أدل على ذلك من هذا الهلع الذي يصيب الكيان الآن، عند الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة، وهو الطرح الذي كان طبيعيًّا ومقبولًا في الماضي، من خلال قرارَي الأمم المتحدة رقمَي 242 و338، ثم بعد ذلك من خلال مفاوضات كامب ديفيد التي قادها الرئيس الراحل أنور السادات عام 1978، على الرغم من عدم المشاركة الفلسطينية فيها، ثم من خلال اتفاقيات أوسلو مع الزعيم الراحل ياسر عرفات عام 1993، وحتى وقت قريب حينما كان هناك تضامن عربي إلى حد بعيد، تنتفض من خلاله الأروقة الرسمية، دعمًا لقضية العرب الأولى، أو هكذا كانت.

المثير إذن، هو أن الطرح المتعلق بما بعد زوال دولة الاحتلال، أصبح طرحًا داخليًّا إسرائيليًّا، موجودًا بالفعل في منتديات الكيان المغلقة، إلا أنهم دأبوا على تصدير الطرح الآخر إلى العالم، والمقاومة الفلسطينية بشكل خاص، في إطار حرب نفسية يعيها الشعب الفلسطيني جيدًا، وإلا لما كان كل هذا الصمود، وهو الأمر الذي كان يجب أن يعيه الإعلام العربي بشكل خاص، حتى وإن تجاهله أو استبعده الساسة لأسباب معلومة، تضعهم في النهاية تحت طائلة الحساب، وربما العقاب.

من حقنا، ومن مجمل المعطيات، أن نُعد أنفسنا في المنطقة العربية تحديدًا، لما بعد زوال الكيان الصهيوني الغاصب، من حقنا أن نعمل من أجل ذلك اليوم، من حق شعوب المنطقة أن تبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق هذا الهدف، من حق الشعوب أن تفرض إرادتها على الأنظمة بفتح باب التطوع للحرب، وفتح جبهات المواجهة، وأبواب تزويد المقاومة بالمال والسلاح، وليس الغذاء والدواء فقط، من حق القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك علينا إطلاق أبواق النفير للجهاد والدفاع عن الشرف العربي المنتهك على مدى ما يقرب من ثمانية عقود.

بعد الكيان

المنطقة أيها السادة فيما بعد الكيان الصهيوني لن تكون أبدًا كما كانت في وجوده، بعد أن يصبح السلام سيد الموقف، ويعم الرخاء، وتنطلق التنمية، ذلك أننا أمام كيان احترف إشعال النيران، وأمعن في التخريب والدمار، واعتاد سفك الدماء، وارتكب من المجازر ما يشيب له الولدان منذ عام 1947 وحتى الآن، بدايةً من بلدة الشيخ، ودير ياسين، وأبو شوشة، والطنطورة، وقبية، وقلقيلية، وكفر قاسم، وخان يونس، وبحر البقر، وتل الزعتر، وصبرا وشاتيلا، والمسجد الأقصى، والحرم الإبراهيمي، ومخيم جنين، وصولًا إلى المجازر اليومية حاليًّا بقطاع غزة، التي بلغت وحدها نحو 2000 مجزرة.

نحن أمام كيان كان سببًا في صراع واضح على التسلّح بين دول المنطقة، بدلًا من المنافسة على التطور والتقدم والتنمية والإنفاق على ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وسوف يظل الأمر كذلك، بل سوف يزداد سوءًا إذا لم ينته أمر هذا الكيان بالزوال إلى غير رجعة، مثقلًا بأوزاره وآثامه، وفي مقدمتها مفاعلاته وأسلحته النووية، التي شكلت تهديدًا لأمن وسلامة المنطقة كل هذه السنوات، بعد أن كانت قبلة للزوار والسائحين، الغربيين بشكل خاص، باعتبارها مهد الأديان، ومبعث الرسل عليهم السلام.

نحن إذن أمام حالة من التلوث والدنس من كل الوجوه، توجب على كل أبناء المنطقة، كل فيما يخصه، أن يكون شغلهم الشاغل، هو الإعداد لما بعد زوال هذا الكيان، وهي مهمة النخب الثقافية والسياسية والإعلامية بشكل عام، ذلك أنها سوف تمهد الشارع العربي للتعامل مع الحالة الراهنة على هذا النحو، باعتبارنا أمام كيان زائل لا محالة، لا ينبغي أبدًا الوثوق به أو التطبيع معه، ولا إقامة علاقات من أي نوع، إلى أن يجد نفسه أمام أمر واقع، هو حتمية الرحيل، وقد ظهرت بوادر ذلك بالفعل، بظهور جماعات داخل الكيان تدعو إلى الرحيل، ما دام قد انعدم أمنه وأمانه، بعد أن تغوّل في القتل إلى هذا الحد الذي لم يعد يحتمل أيّ حوار، ولا تجدي معه أيّ صفقات.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان