حدود الفاعلية: محكمة العدل الدولية والإبادة في غزة

تصاعد الحديث عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا خلال الأسابيع القليلة الماضية عن محكمة العدل الدولية، بعد الدعوى التي حركتها دولة جنوب إفريقيا ضد “إسرائيل” والطلب الذي قدمته بتاريخ 29 ديسمبر/كانون الأول 2023، تتهمها فيه بارتكاب جرائم إبادة جماعية في هجومها على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بما يتعارض مع اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية لعام 1948، التي وقّعت عليها كل من جنوب إفريقيا وإسرائيل، والتي تحتفظ فيها الأطراف الموقعة على المعاهدة بحقها في منع الجريمة ووقفها.
وتستند جنوب إفريقيا في دعواها إلى حقيقة مقتل آلاف الفلسطينيين وتشريدهم بشكل جماعي وتدمير منازلهم إلى جانب عدد كبير من التصريحات التحريضية الصادرة عن مسؤولين رسميين إسرائيليين، التي تتعامل مع الفلسطينيين على أنهم دون البشر وأنه يجب إنزال العقاب الجماعي بهم، وهو ما يمثل إبادة جماعية ودليلا على النية بارتكابها.
وشهدت المحكمة يومي 11 و12 يناير/كانون الثاني 2024 جلسات استماع من الطرفين، حيث قدم فريق جنوب إفريقيا دفوعه ومرافعاته في اليوم الأول، وقدم الفريق الإسرائيلي دفوعه ومرافعاته في اليوم الثاني، حتى تنظر المحكمة فيما إذا كانت تتمتع بالاختصاص القضائي لنظر الدعوى؟ وما إذا كانت الأفعال المشار إليها في الدعوى تندرج ضمن نطاق معاهدة الإبادة الجماعية؟
وهنا يكون السؤال الرئيس عن حدود الفعالية التي تتمتع بها محكمة العدل الدولية في مثل هذه الدعاوى، وما العوامل التي تؤثر في هذه الحدود؟
محكمة العدل وميثاق الأمم المتحدة
تناول الفصل الرابع عشر من ميثاق منظمة الأمم المتحدة الصادر عام 1945، المواد الخاصة بمحكمة العدل الدولية، باعتبارها إحدى الأجهزة الرئيسية التي تقوم عليها المنظمة (بجانب الجمعية العامة، مجلس الأمن، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومجلس الوصاية)، حيث تم النص في المادة (92) على محكمة العدل الدولية هي الأداة القضائية الرئيسية “للأمم المتحدة”، وتقوم بعملها وفق نظامها الأساسي الملحق بهذا الميثاق وهو مبني على النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل الدولي وجزء لا يتجزأ من الميثاق.
ويُعتبر جميع أعضاء “الأمم المتحدة” بحكم عضويتهم أطرافًا في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، ويجوز لدولة ليست من “الأمم المتحدة” أن تنضم إلى النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية بشروط تحددها الجمعية العامة لكل حالة بناء على توصية مجلس الأمن (المادة 93)، ويتعهد كل عضو من أعضاء “الأمم المتحدة” بأن ينزل على حكم محكمة العدل الدولية في أية قضية يكون طرفًا فيها، وإذا امتنع أحد المتقاضين في قضية ما عن القيام بما يفرضه عليه حكم تصدره المحكمة، فللطرف الآخر أن يلجأ إلى مجلس الأمن، ولهذا المجلس إذا رأى ضرورة لذلك أن يقدم توصياته أو يصدر قرارًا بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ هذا الحكم (المادة 94).
المحكمة ومسار الدعوى والأحكام
تتألف المحكمة من 15 قاضيًا، يتم انتخابهم لولاية مدتها تسع سنوات من قِبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن. وتجرى الانتخابات كل ثلاث سنوات لثلث المقاعد، ولا يوجد سوى قاض واحد من أي جنسية، والتكوين الحالي للمحكمة يضم قضاة من: الولايات المتحدة، روسيا، الصين، ألمانيا، فرنسا، سلوفاكيا، اليابان، الهند، أستراليا، البرازيل، المغرب، الصومال، لبنان، أوغندا، جامايكا.
وتبدأ القضايا عندما تقوم الأطراف بتقديم المرافعات وتبادلها وبيان تفصيلي للوقائع والقانون الذي يعتمد عليه كل طرف، ومرحلة شفهية تتكون من جلسات استماع عامة يخاطب فيها الوكلاء والمحامون المحكمة، وتقوم البلدان المعنية بتعيين وكيل للدفاع عن قضيتها، ويمكن للمحكمة أن تحكم في القضايا الخلافية والنزاعات القانونية بين الدول؛ وكذلك في “الإجراءات الاستشارية” وهي طلبات للحصول على فتاوى بشأن المسائل القانونية من أجهزة الأمم المتحدة وبعض الوكالات المتخصصة.
وتندرج الدعوى التي قدمتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل ضمن القضايا الخلافية والنزاعات القانونية، وهي المرة الأولى التي يتم فيها رفع قضية خلافية ضد إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948، ووفقا للدعوة فإن أفعال إسرائيل “تعتبر ذات طابع إبادة جماعية، لأنها ترتكب بالقصد المحدد المطلوب، تدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من القومية الفلسطينية الأوسع والمجموعة العرقية والإثنية، وأن سلوك إسرائيل، من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها، يُشكل انتهاكا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية لعام 1948، التي وقعت عليها إسرائيل.
وأحكام المحكمة نهائية، وليست هناك إمكانية للاستئناف. والأمر متروك للدول المعنية لتطبيق قرارات المحكمة في ولاياتها القضائية الوطنية، وفي معظم الحالات، تحترم التزاماتها بموجب القانون الدولي، وفي حال الفشل في أداء الالتزامات الملقاة على عاتق الدولة بموجب حكم ما، يكون البديل هو اللجوء إلى مجلس الأمن الذي يمكنه التصويت على قرار، وفقا لميثاق الأمم المتحدة.
ومن بين النماذج التاريخية على هذه الحالة القضية التي رفعتها نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة عام 1984، للمطالبة بتعويضات عن الدعم الأمريكي لمتمردي الكونترا، وحكمت المحكمة لصالح نيكاراغوا، ورفضت الولايات المتحدة الحكم، ورفعت نيكاراغوا الأمر إلى مجلس الأمن، واستخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضد القرار، وهو ما يمكن أن يذهب إليه نفس مسار الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل.
دعوى جنوب إفريقيا ومساراتها المتوقعة
في حال موافقة المحكمة على طلب جنوب إفريقيا، يمكن أن تصدر أمرًا في غضون أسابيع، كما حدث في قضية أوكرانيا ضد روسيا، حيث استجابت المحكمة لطلبات أوكرانيا بإصدار أمر طارئ ضد العدوان الروسي، وأمرت المحكمة في 16 مارس/آذار 2022 روسيا بـالتعليق الفوري للعمليات العسكرية، ومع اختلاف حالة غزة عن أوكرانيا لأن طرفي الدعوى هنا مختلفان، وإذا كانت المحكمة مترددة في القول “إنه يتعين على إسرائيل وقف أعمالها، لأنها لا تستطيع أن تطلب من حماس أن تفعل الشيء نفسه”، فإنها قد تطلب من إسرائيل، بدلا من ذلك “إظهار المزيد من ضبط النفس”.
وفي هذه الحالة تكون القيمة الحقيقية لتحريك مثل هذه الدعوى في هذا التوقيت هي ممارسة مزيد من الضغوط الدولية على إسرائيل كي توقف الحرب، وتعزيز مبدأ المساءلة القانونية في مواجهة إسرائيل بتوثيق تجارب الضحايا وتسمية الجناة وكشف الانتهاكات التي قاموا بها وكذلك تسجيل سابقة دولية.
يُعزز من هذا تدخل دول أخرى قانونيًّا لصالح أي من طرفي الدعوى، كما حدث في قضية أوكرانيا ضد روسيا حيث تدخلت 32 دولة لدعم أوكرانيا، لكن هذا التدخل يمكن أن يساهم في تعقيد الأمور القانونية أمام تزايد تأثير الاعتبارات السياسية من الدول المتدخلة، وإبطاء العملية والتسبب في تحديات لوجستية للمحكمة.
يُضاف إلى هذه الاعتبارات التي لها تأثيراتها في مسارات الحكم، ما تكشفه الوقائع القانونية التي تقدمها الأطراف المتنازعة، والضغوط التي يمكن أن تُمارس على كل عضو من طرف دولته التي قد تؤثر في مصداقية القاضي ومصداقية المحكمة بشكل عام.
وبناء على هذه الاعتبارات، يمكن القول إنه في المرحلة الأولى للمحاكمة وإصدار الأوامر المؤقتة، فإن الحد الأقصى المتاح للمحكمة أن تأمر إسرائيل “بوقف إطلاق النار بشكل كامل في قطاع غزة”، والحد الأدنى أن يكون قرار المحكمة “منع المساس بالمدنيين وبالمنشآت المدنية في غزة”، أما البديل الأسوأ بالنسبة لجنوب إفريقيا فهو أن “تقرّ المحكمة أنه ليس لديها الصلاحية القانونية للنظر في القضية” بدعوى أنه “لم تسبق القضية منازعة حقيقية بين جنوب إفريقيا وإسرائيل”.
وأيًّا كانت النتيجة أو المسار الذي يمكن أن تأخذه الدعوى، فقد حققت العديد من الأهداف، أولها تحريك دعوى محاسبة ضد إسرائيل لأول مرة في تاريخها، وثانيها التوثيق الدقيق للانتهاكات التي قامت بها وهو ما ظهر في المرافعات التي قدمها فريق جنوب إفريقيا، وثالثها نقل الخلاف من نطاق السياسة والإعلام إلى نطاق القضاء الدولي، وهو أداة مهمة يجب الأخذ بها، بغض النظر عن إمكانية الوصول إلى أحكام رادعة أو عدمها، في ظل عقبة حق الفيتو الذي تستخدمه الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن دفاعًا عن مصالحها الاستراتيجية ومصالح حلفائها، وللولايات المتحدة تاريخ شديد السلبية في استخدامها لهذا الحق دعمًا لإسرائيل منذ 1947 وحتى اليوم.