في البدء كانت ثورة يناير

بمقدار ما كانت ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 في مصر حدثًا كبيرًا واستثنائيًّا، كانت الآمال تتعلق عليها بإمكانية أن تصنع واقعًا سياسيًّا جديدًا نحو دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تلحق بالعصر ولا تنفصل عنه، لا تراوح مكانها بلا تقدم، ولا يتمسك فيها نظام الحكم بنفس قواعد وأفكار وسياسات عصر ما قبل التحرر من الاستعمار.
حتى الآن لم تحقق “يناير” ما نادت به الملايين التي احتشدت في الميادين، لكنها حققت إنجازات تنبئ عن مستقبل مختلف، تبنيه الأفكار التي حملتها الثورة وأطلقتها في الوعي العام.
في البدء كانت الثورة
كانت الثورة مفاجئة للجميع، ليس للسلطة السياسية الموجودة وقتها فقط، بل لمن صنعوها وشاركوا فيها وانحازوا إليها أيضًا، فلم يكن أحد من هؤلاء جميعًا يتخيل أن يتحول يوم الاحتجاج الذي دعا إليه عدد من الشباب المهتم بالحياة العامة إلى ثورة شعبية يشارك فيها الملايين، وتتحول شعاراتها وأهدافها تدريجيًّا إلى المطالبة برحيل رأس النظام الحاكم، ثم نجاح الثورة بالفعل في الإطاحة به في 18 يومًا فقط.
في 11 فبراير/شباط 2011، وبعد دقائق من رحيل الرئيس الأسبق حسني مبارك، وجدت القوى السياسية التي شاركت في الثورة نفسها أمام لحظة عظيمة واستثنائية ومعقدة في آن واحد، فلم يكن هناك من يملك خططًا لما بعد مبارك، ولم يكن هناك من لديه مشروع سياسي واضح للمستقبل، وليس هناك أكثر من شعارات وأهداف مهمة ونبيلة لم يترجمها أحد إلى خطط وبرامج عمل وآليات للتنفيذ، هذا الوضع شمل الجميع بمن فيهم جماعة الإخوان المسلمين التي كانت هي الوحيدة التي تمتلك تنظيمًا سياسيًّا كبيرًا لكنها مثل غيرها كانت تفتقد خبرة الحكم وأدواته، وقد باغتتها اللحظة مثلما باغتت الجميع، وفاجأها المشهد الذي فرضه الشعب الغاضب والثائر والمطالب بدولة جديدة بدون مقدمات.
خرجت الثورة من نار كانت تشتعل تحت الرماد بعيدًا عن أنظار من يسيطرون على السلطة والثروة، وحركها آلاف من الشباب الذين نشأوا على هامش نظام لا يتسع إلا لرجاله، ولا يسمع إلا صدى صوته، هذا النظام كان قد تقادم وتملكته الشيخوخة فلم يعد قادرًا على التطور أو الاتساع ليشمل الجميع، اكتفى “بشلة” صغيرة تحكم وتتحكم في مصير البلد، وتضع الخطط لمستقبله وهي تقصي الكل.
هنا قرر الشعب المصري في لحظة تاريخية مواتية داخليًّا وخارجيًّا أن ينهي ثلاثين عامًا متصلة جثم فيها نظام مبارك على السلطة، وأن يمحو من واقعه السياسي الفساد والاستبداد والإقصاء والواسطة والمحسوبية، وأن يقضي على مشروع توريث الحكم من الأب إلى الابن قبل أشهر من تحوله إلى واقع سياسي جديد قمعًا وقهرًا.
لحظة فريدة في التاريخ
في حسابات السياسة كان هذا هو الإنجاز الأول والأهم الذي حققته ثورة يناير، فقد أسقطت الثورة مبارك “بتوريثه” خلال 18 يومًا غيرت تاريخ مصر، وحولت مساره إلى مراحل سياسية جديدة، وفرضت أهدافها وشعاراتها الكبرى التي طغت على الواقع السياسي المصري: عيش وحرية وعدالة وكرامة.
في اللحظة نفسها التي أطاحت فيها الثورة مبارك وألقته إلى ذمة التاريخ، كان الإنجاز الثاني لهذه الثورة الخالدة يتشكل ويسري بهدوء في وعي الملايين من أبناء الأجيال الجديدة من المصريين.
فمشهد “الرحيل” تحت ضغط الجماهير المحتشدة في الميادين هو ما يمكن التأكيد بثقة أنه اللحظة التي غيرت نفسية المصريين للأبد، فالذي لا يمكن حذفه من التاريخ: شعبنا يثور على رئيس يملك الأرض ومن عليها ويحكم لمدة ثلاثين عامًا فيسقطه ويحاكمه، لحظة استثنائية وفريدة في التاريخ ستشكل وتؤثر في عقلية ووعي ملايين من الناس الذين شاركوا في الثورة وتفاعلوا معها.
وسيتوقف أمامها التاريخ طويلًا وكما لم يحدث من قبل، هذا المشهد سيظل حيًّا في ذاكرة الملايين من الناس وهم يدركون في يقينهم أن لا قوة أكبر من الشعب، وأنهم إذا أرادوا وقرروا التغيير فلا راد لقوتهم وقدرتهم وإرادتهم، رسالة على بساطتها ستشكل مستقبل هذا البلد ونفسية أبنائه لسنوات طويلة مقبلة، وسيتسلح بها ملايين من البشر ربما لم يشاركوا في الثورة أصلًا بل شاهدوها على شاشات التلفزيون، فلم تكن الأجيال التي صنعت الثورة الخالدة على تعددها هي “آخر الأجيال” بحسب القصيدة الشهيرة لشاعر مصر الكبير الراحل فؤاد حداد.
وعي جديد لا يمكن هزيمته
إسقاط الفساد وهدم مشروع التوريث وتغيير العقل الجمعي ونظرته للرئيس لم تكن أهم إنجازات ثورة 25 يناير الخالدة فقط، بل كان ما بثته من دماء في شرايين الوعي العام هو الإنجاز الأعظم خلال سنوات مضت.
فالثورات ليست مجرد مظاهرات واحتجاجات شعبية في الميادين فقط، بل إن نجاح الثورة في الأصل يقاس بما حققته -أو غيرته- في الوعي العام، وهنا يبدو إنجاز “يناير” الكبير الذي لا يمكن إنكاره، فرغم ما يبدو من عدم نجاح الثورة حتى الآن في تغيير السياسات والأدوات، فإن المؤكد والذي لا يقبل الشك هو نجاحها الكبير في تغيير الوعي العام، بعد أن أخرجت أجيالًا شابة جديدة من ظلام الاستبداد الذي يحاصر العقول إلى الانفتاح المذهل على العالم بعلمه وحضارته.
هذا الانفتاح المعرفي الكبير صنع أجيالًا تتسلح بقواعد سياسية وإنسانية تحصنها من الخضوع لكل صور التسلط على العقل، بل باتت هذه الأجيال تنظر برفض مطلق لكل صور الاستبداد والقمع بكل أشكاله، وأضحى اهتمامها بالشأن العام والأحداث اليومية أكبر من أن ينكره أحد، ثم إن الشهور التي تمتعت فيها أجيال “يناير” بالحرية في أعقاب الثورة أضحت كالحلم الذي “مسها” وتذوقت روعته واحترامه للإنسان، فلم يعد يفارقها أبدًا.
هذا الوعي الذي تغيّر والذي يقارن في كل يوم بين بلده وما يراه في العالم هو الزاد الكبير والرصيد الأعظم لمستقبل مختلف، فهؤلاء الذين تمردوا على الأفكار البالية والتقليدية، والذين باتت عقولهم لا تطيق الوصاية ولا تقبل بالسلطة الأبوية سياسيًّا هم الذين سيشكلون مستقبلًا مثلت فيه ثورة يناير العظيمة ضربة البداية ومفتتح الطريق.
في كل المياه التي جرت في النهر منذ 2011 حتى الآن نستطيع التأكيد: لا خوف على ثورة يناير، فالأحداث الكبرى في التاريخ لا يمكن محوها بجرة قلم، ولا يمكن حذفها بمحاولات التشويه أو التنكيل أو الإساءة.
والثورات بأفكارها النبيلة والتقدمية تسري بهدوء ويقين في شرايين مجتمعها، فتغيّر الوعي، وتبني أجيالًا جديدة، وتهدم ما تبقى من أفكار وسياسات تقادمت، وتصنع مسارًا مختلفًا ليسير عليه المستقبل.
فالثورات الكبرى في التاريخ الإنساني تراوحت بين المد والجزر، الانتصار والهزيمة، لكنها حققت انتصارات خالدة في نهاية المطاف، والمؤكد أن الثورات تحتاج قليلًا من الوقت كي تحقق ما نادت به، هذا القليل في عمر الشعوب والدول قد يكون سنوات وليس شهورًا أو أسابيع.
يقيني أن من يظن أن الثورات يمكن هزيمتها بشكل نهائي هو كمن يقف ضد حركة التاريخ، والمؤكد أن التاريخ لا يمكن لأحد أن يوقفه.