طوفان السودان.. الشعب المسلح في مواجهة الدعم السريع

سودانيون من ولايتي الخرطوم والجزيرة، نزحوا بسبب الصراع بين الجيش ومليشيات الدعم السريع، يصطفون لتلقي المساعدات من منظمة خيرية في القضارف (الفرنسية)

كان اجتياح ميليشيات الدعم السريع لولاية الجزيرة وعاصمتها (ود مدني) منتصف ديسمبر/كانون أول الماضي نقطة فاصلة في تحول الرأي العام السوداني إلى التفكير في حماية نفسه بنفسه بعد تأكده من فشل الجيش في القيام بهذه المهمة.

لقد كان دخول قوات حميدتي إلى عاصمة الولاية –أيا كانت الطريقة- صدمة كبيرة ليس لمواطني الجزيرة واللاجئين إليها فقط، بل لعموم الشعب الذي تيقن أنه لا يوجد مكان آمن يحميه، فحتى الذين هربوا إلى الجزيرة بحثا عن الآمان تعرضوا للاجتياح، وتعرضوا للسلب والنهب والتحرش واغتصاب النساء، وتيقنوا هم وغيرهم أنهم لو لجؤوا إلى أي مكان آخر داخل السودان- بعد إغلاق السفر خارجه- فإنهم سيواجهون المصير ذاته مع اجتياح جديد لميليشيات الدعم السريع، ومع عجز الجيش عن المواجهة أيضا لأسباب كثيرة شرحناها في مقال الأسبوع الماضي، ومن هنا ظهرت فكرة الدفاع الذاتي، انطلاقا من المثل العربي “ما حك جلدك مثل ظفرك فتولى أنت جميع أمرك”.

كان لطوفان الأقصى انعكاسه على الشعب السوداني، حيث قدمت المقاومة الفلسطينية نموذجا ملهما في تحدي المستحيلات، وتمكنت من مواجهة أقوى جيش في الشرق الأوسط، وهنا ارتفع منسوب التفاؤل لدى السودانيين بقدرتهم -كشعب – على مواجهة ميليشيات الدعم السريع بأنفسهم بعد أن عجزت قوات الجيش المصممة للحروب النظامية عن المواجهة، وشهدت ولايات السودان المختلفة نفرة عامة لتشكيل مجموعات شعبية مسلحة للدفاع عن المدن والبلدات والبيوت والممتلكات، وتكونت في كل ولاية تقريبا قيادة لهذه المجموعات المسلحة التي استطاعت الحصول على السلاح اللازم من القوات المسلحة، أو عبر اللجوء إلى سوق السلاح غير الرسمي.

منازلنا مقابرنا

أدرك السودانيون أن واجبهم ليس فقط دعم الجيش معنويا أو ماديا، بل القتال المباشر إلى جانبه وبالتنسيق معه، وكانت البداية المبكرة بتطوع قدامى العسكريين (المعاشيين)، وأعداد من الشباب الوطني استجابة لنداءات من القائد العام للجيش، ومع التباطؤ في تسليح الجيش لأولئك المتطوعين بحث المواطنون عن مصادر تسليح سريعة أخرى. لقد أدرك المواطنون أن مشروع الدعم السريع، ومن يقفون خلفه هو تحطيم السودان وتفتيته، ونشر الاضطرابات الدائمة فيه، وأدرك المواطنون أن لا ملجأ لهم إلا بيوتهم ومدنهم وبلداتهم، ورفعوا شعار”منازلنا مقابرنا”  فحملوا السلاح دفاعا عن أنفسهم ودورهم وعائلاتهم وممتلكاتهم.

التقدم العسكري على الأرض للدعم السريع في ولايات دارفور وبعدها الجزيرة، ثم ظهور قائده حميدتي مع أبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي ومن قبله مع يوري موسيفيني الرئيس الأوغندي بعد شائعات قوية عن موته مثل دعما سياسيا قويا لموقف تلك الميليشيات في مواجهة الجيش خلال جلسات التفاوض المتوقعة سواء في جيبيوتي أو غيرها، لكن ظهور المقاومة الشعبية، وانتشارها في العديد من الولايات، أصبح ورقة قوة جديدة لبرهان أتته من حيث لا يحتسب، وأعادت التوازن بين الفريقين المتحاربين، ويمكنها أن تحدث فارقا لصالح الجيش لو قام بتسليح المقاومة، وتدريبها وتنظيمها، وتوفير قيادات عسكرية لقيادتها، حتى لو كانت من عسكريين سابقين.

المقاومة أربكت الحسابات

ظهور هذه القوة الجديدة أربك حسابات القوى السياسية المناصرة للدعم السريع، وهي قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، والتي كانت تراهن على انتصار حليفها حميدتي الذي تعهد بتسليمها السلطة، والقضاء على خصومها السياسيين (الكيزان)، ولذا فقد سارعت هذه القوى بتشويه المقاومة الشعبية، بدعوى أن وجودها لن يوقف الحرب بل سيسهم في اتساعها، وأنها ستنهي كيان الدولة، وستحول السودان إلى دولة ميليشيات، والغريب أن ما تحذر منه تلك القوى وقع بالفعل وعانى منه السودان على يد ميليشيات الدعم السريع التي تناصرها.

وإذا كانت تجربة المقاومة الفلسطينية، وانتصارها المبين في طوفان الأقصى هي الملهم الرئيسي للمقامة الشعبية في السودان، فإن هناك العديد من التجارب التاريخية للمقاومة الشعبية المسلحة التي نجحت في تحرير بلدانها لعل أبرزها المقاومة الجزائرية، والفيتنامية، بل إن غالبية تجارب التحرر في إفريقيا نجحت عبر المقاومة الشعبية، وللتذكير فقد اتهمها الغرب جميعا، واتهم قادتها بالإرهاب، وهو ما ينتظر المقاومة الشعبية في السودان، وللإفلات من ذلك فإنه يتعين على الجيش السوداني تنظيم هذه المقاومة، وتدريبها وتسليحها باعتبارها جزءا منه، وليست محض مجموعات منفلتة مثل ميليشيات الدعم السريع، مع العلم أن هذه المقاومة الشعبية تلقى ترحيبا ودعما كبيرا من عديد الأحزاب والقوى السياسية السودانية.

فاعل سياسي جديد

سيكون وجود المقاومة الشعبية في بعض الولايات والمدن مانعا حقيقيا أمام تحركات ميليشيات الدعم السريع لاجتياحها، حيث ستواجه سكانا مسلحين يدافعون عن أنفسهم، كما أن هذه المقاومة سيمكنها طرد تلك الميليشيات من الأماكن التي احتلتها من قبل وعاثت فيها فسادا وسلبا ونهبا، وساعتها ستصبح هذه المقاومة رقما مهما في المشهد السياسي السوداني، وسيكون لها وليس للبرهان الكلمة العليا في رسم المشهد السياسي الجديد في البلاد.

رغم تسارع خطوات بعض الوسطاء السياسيين لجمع الجنرالين البرهان وحميدتي بهدف الوصول إلى تسوية تنهي الصراع المسلح في السودان- وهو أمل لكل السودانيين ومحبيهم-، إلا أن فرص انتهاء الصراع ليست قوية للأسف، فحميدتي لا يقدح من رأسه، والقوى الإقليمية الداعمة له لن تقبل بأقل من عودته لمنصبه كنائب للرئيس، ونائب لقائد القوات المسلحة، مع الإبقاء على الدعم السريع، والإبقاء على سيطرته على بعض الولايات وخاصة ولايات دارفور، وهو مالا يقبله الجيش، ولا يقبله أيضا الشعب السوداني بعد هذه الجرائم والفظائع بحقه من ميليشيات حميدتي، ولذلك فالاحتمال الأرجح هو استمرار المعارك حتى تطرد المقاومة الشعبية ميليشيات حميدتي من المنازل المناطق التي احتلتها.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان