في “عام غزة”.. متى يعصرون الزيتون؟

يستحق 2023 أن يطلَق عليه “عام غزة”، فقد أصبحت المدينة الأكثر تداولًا في الأخبار ومحركات البحث بعد أن فرضت المقاومة الفلسطينية المسلحة قضية الاحتلال الإسرائيلي وأوضاع حصار القطاع المنكوب على أجندة المجتمع الدولي، وقفزت بأخبار العدوان على السكان المدنيين العزل إلى صدر الصفحات الأولى ونشرات الأنباء ورؤوس الساعات في الفضائيات بعد سنوات من الاختفاء التام أو الظهور الخجل في أخبار مقتضبة وقصيرة لا تصف معاناة ولا تكشف عوارًا، ولا تغني عن أعوام من الآلام المستمرة دون نصير أو حليف.
النظرة الفاحصة على العناوين الرئيسية للصحف العالمية في الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل في الأول من يناير/كانون الثاني 2023 ومقارنتها بنظيرتها بعد عام كامل ستكشف حجم التغير الذي حدث بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول في “عام غزة”.
قبل عام
في الأول من يناير 2023 جاء عنوان “واشنطن بوست” الأمريكية (داعش يتبنى هجوم الإسماعيلية في مصر)، وهو عن حادث إرهابي لمسلحين استهدف حاجزًا أمنيًّا في محافظة الإسماعيلية شرق القاهرة، وأسفر عن مقتل وإصابة 15 شخصًا.
وجاء التقرير الإخباري الرئيسي في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية بعنوان (موسكو وبيجين تُقلقان واشنطن.. واحتجاجات إيران مستمرة)، وكان عن تقارب مواقف روسيا والصين فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، وملف التجارة العالمية، وكذلك عن استمرار المظاهرات التي اندلعت في إيران عقب مقتل الفتاة الكردية “مهسا أميني”، بعد احتجازها بتهمة ارتداء “ملابس غير لائقة”، مما أدى إلى موجة احتجاج واسعة استمرت أشهرًا عدة، واستخدمت الشرطة الإيرانية فيها العنف.
أما عنوان “وول ستريت جورنال” فكان (الأسهم الأمريكية تنهي العام مع عدم وجود ارتفاعات قياسية تقريبا)، وكان خبرًا عن استقرار في سوق الأسهم الأمريكية بعد صعود وهبوط.
أما على مستوى الصحف البريطانية فقد كان العنوان الرئيسي في “الغارديان” هو (واشنطن تُشكك في حياد بيجين من الحرب الروسية الأوكرانية)، وهو عن انزعاج واشنطن من تنسيق المواقف بين روسيا والصين في ملفات عدة وأهمها في ذلك الوقت الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
وعلى مستوى الصحافة الإسرائيلية كان الخبر الرئيسي في “جيروزاليم بوست” هو (كيم زعيم كوريا الشمالية يدعو إلى إطلاق صواريخ باليستية عابرة للقارات جديدة وإنتاج كميات كبيرة من الأسلحة النووية التكتيكية)، أما عنوان صحيفة “هآرتس” فكان (الأمم المتحدة توافق على طلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية بشأن سلوك إسرائيل في الضفة الغربية.
ويمكن تلخيص الموضوعات الرئيسية في الصحف الست بكلمات داعش، بيجين، موسكو، إيران، أوكرانيا، الأسهم الأمريكية، كوريا الشمالية، محكمة العدل الدولية. ولسنا بحاجة للإشارة إلى أن أي شأن فلسطيني وفق أي مستوى لم يكن له حظ الظهور في الصفحات الأولى من تغطيات هذه الصحف الكبرى، باستثناء خبر وحيد عن طلب الأمم المتحدة رأي استشاري من محكمة العدل الدولية بشأن سلوك إسرائيل في الضفة الغربية، والعنف الذي ما زال مستمرًّا حتى كتابة هذه السطور.
العام الجديد
وبعد عام كامل وفي الأول من يناير 2024 يمكننا ملاحظة الفارق، إذ اهتمت الصحف الأمريكية بشؤون واشنطن الخاصة كالعادة، فقد كان العنوان الرئيسي لجريدة “واشنطن بوست” اقتصاديا (النفط الأمريكي يسجل رقما قياسيا في عهد بايدن)، أما “نيويورك تايمز” فقد كان عنوانها (الولايات المتحدة وحلفاؤها الآسيويون يسرعون للرد على صواريخ كوريا الشمالية). وهنا نلاحظ أن الشأن الداخلي كان طاغيًا على الصحف الأمريكية رغم سخونة الأحداث في غزة.
أما صحيفة “الغارديان” البريطانية فقد كان عنوانها الرئيسي يشير إلى استمرار عمليات جيش الاحتلال في غزة واستمرار سقوط الضحايا مع احتفالات العام الجديد، وهو (الغارات الجوية الإسرائيلية تقتل العشرات مع دخول الحرب عامها الجديد) بينما جاء عنوان صحيفة “جيروزاليم بوست” (إطلاق وابل من الصواريخ على إسرائيل مع بدايه العام الجديد)، بينما كان عنوان صحيفة “هآرتس” هو (إصابة 13 جنديًّا اسرائيليًّا سبعة منهم في حالة خطرة)، وتلفت الصحيفة النظر إلى تكلفة الحرب على غزة من ناحية الخسائر البشرية بالنسبة لإسرائيل.
وإذا استثنينا الصحافة الأمريكية المغرقة في الشأن المحلي في أول يوم من العام الجديد، فإن الصحافة الأوروبية ونظيرتها الإسرائيلية سيطرت عليها أخبار غزة وخسائر الجانبين البشرية.
الثمن المدفوع
لكن الثمن الذي دفعه الفلسطينيون لإعادة قضيتهم إلى واجهة اهتمام العالم كان فادحًا على مستوى الحجر والبشر، فقد بلغ عدد الشهداء في عموم فلسطين منذ بداية 2023 نحو 22400، منهم 22141 شهيدًا منذ السابع من أكتوبر 2023، استحوذ قطاع غزة على 98% منهم كما بلغ عدد الأطفال منهم نحو 9000 في حين بلغ عدد النساء نحو 6450 امرأة.
ووراء كل شهيد وجريح قصة، وربما قصص لآدميين شاءت أقدارهم أن يكونوا رموزًا للمعاناة في هذا العالم، فهم ليسوا مجرد أرقام يمكن اختزالهم في إحصائية وإن بدوا كذلك.
في “عام غزة” تشير تقديرات حكومة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى أن 305 ألف وحدة سكنية تم تدميرها بشكل كامل أو جزئي جراء قصف الجيش الإسرائيلي منذ بداية العدوان على القطاع.
ورغم أن التقديرات ذاتها تتحدث عن أكثر من 23 مليار دولار خسائر اقتصادية في قطاع غزة، فإن حساب الخسائر عملية معقدة، إذ إن العدوان مستمر وأي تقديرات دقيقة أو شبه دقيقة تستلزم أن تضع الحرب أوزارها.
وتبدو الصعوبة في أن تدميرًا قاسيًا ومُركَّزًا قد تم بمنهجية واضحة للأبنية والمعدات في المستشفيات والمدارس والجامعات وشبكة الكهرباء والاتصالات والإنترنت ومرافق النقل والمواصلات والسيارات الخاصة والأراضي الزراعية وأماكن وقوارب الصيد، وكل هذا يستلزم بنى تحتية جديدة حيث الدمار واسع وشامل.
وقد فقد 147 ألف عامل في غزة وظائفهم، وأُغلقت بسبب القصف والتدمير نحو 56 ألف منشأة، مما أوصل أكثر من 90% إلى خط الفقر، مع بلوغ نسبة البطالة نحو 70%.
أغصان الزيتون
وحسب منظمة الأمم المتحدة، فإن قطاع غزة يتكبد خسارة يومية قدرها 1.6 مليون دولار أمريكي في الإنتاج الزراعي فقط، مع توقعات أن تكون الخسائر أكثر من ذلك بكثير، إذا وضعنا في الاعتبار تدمير الآلات وإتلاف الأراضي الزراعية، والأضرار التي لحقت بآلاف الأشجار، وخاصة أشجار الزيتون.
وأغصان الزيتون التي دمرتها إسرائيل رمز للسلام، لكن الزيتون محصول له خصوصية بعموم فلسطين وبالطبع في غزة التي تنتج نحو 10 آلاف طن سنويًّا، لكن إسرائيل دمرت الجانب الأكبر من المحصول وأتلفته، كما أدت الحرب إلى توقف أو تدمير معظم العصّارات البالغ عددها نحو 40 عصارة حديثة وتقليدية.
متى؟
توقفت الحياة في غزة، وأطل الموت والخراب من رمال شاطئها إلى رمال صحاريها، وعادت القضية الفلسطينية إلى غرف الأخبار، وراج سوق المحللين والكُتاب والمُنظّرين والمخططين في الهيئات الدولية والإقليمية، لكن السؤال الذي يلح على خواطر المزارعين في القطاع: متى تتوقف الحرب؟ ومتى يمكنهم أن يزرعوا الزيتون؟