إشارات أبطال غزة في الدراما التركية

الفعل الواقعي يكون دائما أقوى من أي عمل درامي يجسده، ويركز الكثير من مشاهدي الأعمال الدرامية في رصد التاريخ من الدراما، ويؤكد صناع الدراما أنهم لا يقدمون تاريخا بالمعنى التأريخي، لكن انعكاس الواقع على الأعمال الدرامية غاية لمن يكتب ويقدم العمل الدرامي.
حينما تختار في وقت معيَّن أن يشاهد الجمهور عملا تاريخيا ما فهذا قيمة للأعمال الدرامية، وعندما تصبح دراما الواقع أقوى من العمل الدرامي بكل ما يحشد له تصبح إشارات العمل الدرامي رسالة تضامن وتفاعل مع الواقع التاريخي الذي نعايشه.
غزة تكتب تاريخها من جديد من خلال بطولات تعجز آلة الفن الدرامي والسينمائي عن تقديمها إنسانيا وواقعيا، هناك في غزة وفلسطين 2.5 مليون بطل حقيقي، لا يستطيع أي مؤلف درامي أن يقدمهم كما يحدث، كل طفل وطفلة فلسطينية تقاوم الغزو البربري الذي يقوم به الجيش الصهيوني في غزة والضفة هم أبطال ملاحم حقيقية.
كل امرأة وفتاة، شاب ورجل، العجائز من النساء والرجال يقدمون أرواحهم وأعمالهم ليبقوا في مواجهة مجازر الصهاينة متمسكين بالأرض وتراب الوطن بطولة كبرى في مواجهة تحالف صهيوني غربي، قرروا ذبح فلسطين، وما زالت فلسطين تلقنهم الدرس وتقاوم، تكبدهم خسائر في ملحمة واقعية أقوى من ملاحم الدراما.
نقترب من نهاية الشهر الرابع لحرب الدول الست الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وهولندا وإيطاليا والكيان الصهيوني الغاصب على غزة، ولا تزال تلك القطعة الصغيرة المساحة تقف بصمود وبطولة وبسالة، فتنتصر.
يقدم أبناء فصائل المقاومة وكل فلسطين ما لا يستطيع عمل درامي مستقبلي أن يحاكيه، ولا نستطيع نحن من يعيشون تلك الملاحم البطولية أن نصوره لأبنائنا، ولكن للمبدع أن يقدم بعض الإشارات لما يحدث ويشير إلى القيم الروحية والإنسانية التي تتدفق علينا من غزة والضفة الغربية وكل أرض فلسطين.
الطفل الشهيد بين عثمان والدحدوح
تقدم الدراما التركية خلال هذا الموسم الذي بدأ في أكتوبر/تشرين الأول عملين تاريخيين لهما جماهيرية عالية ويتمتعان بشعبية كبيرة، الأول هو الموسم الخامس لمسلسل (المؤسس عثمان) وفي هذا الموسم يقدم المنتج التركي الأحداث التاريخية التي صاحبت أولى لبنات إنشاء الدولة العثمانية، أو إمارة عثمان، التي استطاع أورخان الابن الأكبر لعثمان بن أرطغرل أن يقيم دعائم الدولة العثمانية التي صارت دولة الخلافة على يد أحفاد عثمان حفيد سليمان شاه أول من استقل بقبيلة الكايي وأرسى دعائم إمارة مستقلة.
الأحداث تتناول تحالف الدولة البيزنطية في الغرب ومقرها روما الفاتيكان مع المغول القادمين من الشرق الذين استطاعوا السيطرة على أركان دولة السلاجقة من أجل القضاء على حلم الدولة العثمانية، وما بين مقاومة قبيلة سليمان شاه الكايي وطموح عثمان في تأسيس دولته أو سلطنته وجحافل الصليبيين والمغول مع الطامعين من القبائل التركية في مناصب وكيانات مستسلمة للغرب والمغول تدور الأحداث التي يعرضها العمل الدرامي.
طوفان من العسكر المغول بمساعدة فرسان المعبد الصليبيين من الدولة البيزنطية، يجتاح القبائل التي تضامنت مع السيد عثمان، ويبرز العمل ما يسببه هؤلاء في القبائل، تتضح تعليمات القادة في معسكر الأعداء “أبيدوا كل شيء، اقتلوا الأطفال والنساء، أحرقوا المنازل والخيام، لا تتركوا حجرا على حجر في أي مكان تجدوه، حتى يجد عثمان إمارته كومة من الرماد”.
إنهم يبيدون البشر والحجر، هكذا تجد واقع غزة مجسدا أمامك على الشاشة، وفي النص الدرامي إشارات لما يحدث هناك، فتقول بالا زوجة عثمان حينما يهاجم المغول مدينة (يني شهير) مقر عثمان وهي تقاوم وتحارب “الوطن الذي بنيناه بالدم لا نفرط فيه إلا بالموت والشهادة”، أليس المعني نفسه حين يقول أبو عبيدة في نهاية بياناته: إنه لجهاد نصر أو استشهاد؟
في مشهد آخر، يدخل المغول وفرسان المعبد متحالفين إلى مدينة أخرى فيقتلون الأطفال والنساء ويحرقون المدينة، ثم يأتي عثمان ومحاربوه ليجدوا المدينة قد أصبحت خرابا والقتلى يملؤون الشوارع، يحمل عثمان أحد الأطفال بين يديه، ويقسم أن يذيق من فعلوا هذا مرارة القتل والأحزان، لتنتشر صورة عثمان حاملا الطفل الشهيد مع صورة الزميل وائل الدحدوح وهو يحمل طفلا فلسطينيا شهيدا، هي النظرة نفسها، والحزن والصبر والوعد بالانتصار.
أصبع أبو عبيدة في صلاح الدين
أهم ميزات الدراما التركية تصوير حلقات الأعمال واستمرارها وتوقفها بناء على متابعة المشاهدين، فكلما زاد عدد المشاهدات استمر العمل الدرامي، وقد بدأت قناة TRT الحكومية عرض مسلسل (صلاح الدين فاتح القدس) من عشرة أسابيع، اختيار هذا العمل للإنتاج والعرض في هذه الأيام يدل على عقلية الذي يخطط للإنتاج في تركيا، والحقيقة أنه يتمتع بقدر عال من الحكمة، ويهدف إلى إعادة بناء الوجدان والعقل في تركيا والعالم الإسلامي والعربي.
تقديم عمل عن تحرير القدس في هذا التوقيت ومع بداية طوفان الأقصى له دلالة كبيرة، والإشارات في العمل واضحة من خلال النص الدرامي المحكم، وهنا نقول النص الدرامي لا التاريخي، فلا مكان للتاريخ هنا إلا إطاره العام الذي يحكم الأحداث، أما الشخصيات الدرامية والحوار وتصاعد الأحداث فهي ملك المؤلف والمخرج، فلا تحكموا على التاريخ من الأعمال الفنية.
صلاح الدين محرر القدس عمل مليء بإشارات مقاومة، وتبدأ أحداث العمل الدرامي باستيلاء فرسان المعبد على مدينة عسقلان، وتتردد في العمل وصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعسقلان وغزة، وفي إحدى الحلقات تتردد جملة “في فلسطين عروستان، الأمة غزة وعسقلان”، وبالملامح المغولية نفسها في مهاجمة المدن العربية، تأتي مهاجمة عسقلان وسلوك فرسان المعبد، كلهم على شاكلة واحدة في سلوكهم العدواني تجاه كل ما هو عربي وإسلامي.
يعمل صلاح الدين والسلطان نور الدين زنكي على تحرير عسقلان من الصليبيين وفرسان المعبد الصليبي، ورغم المنافسة بين نور الدين وحاكم المدينة الذي يرى أن نور الدين أخذ إمارة الشام من دولة الخلافة واستقل بها، فإن صلاح الدين وزنكي لا يتوقفان عن تحرير عسقلان على طريق تحرير القدس الذي هو حلمهما.
شهدت الحلقات التسع الماضية إشارات منبعها أحداث غزة وإعلان تضامن منتجي العمل مع المقاومة الفلسطينية وفصائلها، من تلك الإشارات حينما تكتمل الاستعدادات لتحرير عسقلان تتردد جملة “عسقلان ثم غزة وبعدهما القدس”، تلك الجملة التي ترددت على لسان صلاح الدين وزنكي أثناء تجهيز حملة إعادة عسقلان، الإشارة واضحة.
متابعة الوقائع التاريخية التي تجري في غزة وفلسطين تتجلى في أحداث العملين اللذين يُقدَّمان الآن على شاشة التلفزيون التركي الحكومي، أما أجمل الإشارات التي حازت إعجاب الكثيرين فهي أصبع “أبو عبيدة” الذي رفعه الممثل التركي الذي يقوم بأداء شخصية نور الدين زنكي وهو في مجلس الحرب استعدادا للتحرك نحو عسقلان، قائلا لهم “مهما قوي الباطل واشتد فإن المنتصر في النهاية هو الحق”، وفي الصورة يرفع أصبعه متمثلا “أبو عبيدة” حين يرفع أصبعه قائلا “إنه لجهاد، نصر أو استشهاد”.