الحياة.. وجهات نظر

ناقلة عسكرية تقف على الحدود مع قطاع غزة (الفرنسية)

(1) موقعك يحدد نظرتك للحياة

مشاهدة الموت وهو يجتاح غزة ليل نهار، تدمي القلب وتدفعك إلى الشعور بالعجز والقهر وأنك تتضاءل أمام نفسك لمحدودية قدرتك على تغيير الوضع القائم.

وتتعجب كيف يمكن لإنسان أن يجد فيما يحدث في غزة ردا مناسبا على طوفان الأقصى؟ لا يمكن فهم ذلك بدون التفكير في اختلاف وجهات النظر؟

أحيانا نفاجأ بأن من نحاوره له وجهة نظر مختلفة عن نظرتنا للأمور، وقد تبدو معقولة ومنطقية ورغم ذلك نظل متمسكين بوجهة نظرنا، مع احترام وجهة نظر محدثنا وإدراك أن الاختلاف لا يؤثر في إمكانية الحوار بل قد يثريه بمفاهيم ومعارف مختلفة.

عادة لا نعقد صداقات مع المختلفين معنا في وجهات النظر، لكن هذا لا يعني أنهم أعداء فهؤلاء نحتاج إليهم لمعرفة الجزء المخفي عنا الذي قد يساعدنا على تصويب رؤيتنا أو التشبث بها أكثر.

أحيانا يتحول الخلاف في وجهات النظر إلى عداء، حين يحاول طرف أن يسفّه وجهة نظر الآخر أو يفرض وجهة نظره بالقوة وما يمتلكه من أدوات تأثير، وإذا لم يوافقه الآخر على وجهة نظره يناصبه العداء ويعتبره من المارقين.

لا توجد وجهة نظر واحدة للعالم، ولو اقتنع طرف بأن وجهة نظره أفضل من الآخر فعليه أن يضع معايير يرتضيها الآخر ويبدأ النقاش من منطلق هذه المعايير المقبولة من الطرفين لتكون وجهة النظر الأكثر تفضيلا هي التي تقترب من هذه المعايير. لكن في حال وضع كل طرف معايير مختلفة للآخر فلا مجال هنا للمفاضلة بينهما وعلى كل طرف أن يتقبل ويحترم وجهة نظر الآخر ما لم ينله منها ضرر.

(2) الصراعات نتاج اختلاف وجهات النظر

في حرب غزة، هناك اختلاف جذري في وجهات النظر، هناك وجهة نظر أمريكية غربية إسرائيلية من ناحية، ووجهة نظر فلسطينية عربية إسلامية في الجهة المقابلة، وجهة النظر الأولى تضع القوة فوق الحق، والثانية تضع الحق فوق القوة، الأولى لم تدرك بعد أن القوة وحدها غير كافية لفرض وجهة نظرها، والثانية أدركت مع الزمن أن الحق يحتاج إلى قوة تحميه. وجهتا النظر تتقابلان الآن في ساحة قتال غير متكافئة يحاول فيها الطرف الأول فرض وجهة نظره بالقوة العسكرية الغاشمة، ويمعن في إذلال خصمه بكل الطرق المتاحة من حصار، وتجويع، وتشريد، وقتل ممنهج، ومنع للمساعدات.

هذا الأسلوب في فرض وجهة النظر يؤدي إلى مزيد من العداوة والكراهية بين الطرفين ويؤجج لهيب نزعة الانتقام، ولا يمكن أن ينتهي بسلام مستقر، المقدمات السيئة لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج إيجابية. حرب غزة ليست الصراع الوحيد في العالم لكنها الصراع الأكثر وحشية لعدم تكافؤ طرفي الصراع من حيث القوة العسكرية. حين تتابع كل الصراعات حول العالم المؤهلة للتحول إلى حروب مدمّرة، ستجدها نتاج اختلاف وجهات النظر ومحاولة طرف فرض وجهة نظره على الآخر بالقوة، ويمكنه فعل ذلك لفترة يسود فيها، لكن حين تختل موازين القوة ويصبح الطرف المسيطر أقل قوة وتزيد قوة الطرف الأضعف تبدأ حرب مفتوحة لا يعرف أحد متى تنتهي ولا ما هي نتائجها، فكم من إمبراطورية سقطت حين توسعت فى بسط نفوذها خارج مركزها.

(3) الغرب يفرض وجهة نظره

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، اعتبر المعسكر الغربي أن من حقه أن ينفرد بقيادة العالم ويفرض وجهة نظره على الجميع، وأصبحت أمريكا القطب الأوحد بلا منازع. واعتبر الغرب أن قيمه ومعاييره الخاصة هي وحدها الصحيحة وما عداها خطأ يجب التكفير عنه.

لم يفعل ذلك فقط في الاقتصاد والسياسة لكنه تدخل في الهويات الوطنية والثقافات المحلية، والقيم الحاكمة للعلاقات الاجتماعية في المجتمعات الأخرى في محاولة لفرض تجربته الخاصة، نلمس ذلك على سبيل المثال لا الحصر في محاولته فرض قبول المثلية الجنسية والإجهاض، أستطيع أن أتفهم هوس الأقوى بفرض قيمه وتجاربه على الآخرين بالقوة الناعمة التي يملكها، لكن أن يفرضها بالقوة وبالتلويح بفرض عقوبات، هذا مالا يمكن قبوله والرضا به.

عادة ما يقلد الضعيف أسلوب حياة القوي في محاولة للتشبه به متصورا أنه بذلك سيكون أكثر مدنية وتحضرا، وتبقى تفاصيل صغيرة تتمسك بها الشعوب التابعة في محاولة أخيرة للتشبث بهويتها ولو بشكل سطحي وطقسي، لكن حتى هذه التفاصيل الصغيرة لا يقبلها الغرب.

(4) نظام عالمي يحترم الاختلاف ويؤمن بالتعاون

حرب غزة كانت فرصة غير متوقعة ظهرت فيها وجهة النظر الغربية بعيدة كل البعد عن المعايير الأخلاقية والإنسانية العالمية التي كان الغرب يفتخر بتمسكه بها وبتفوقه أخلاقيا على نظم الحكم الاستبدادية التي لا تحترم حقوق الإنسان، سقط القناع عن الغرب وظهر وجهه القبيح المشوّه حين دعم إسرائيل في قتلها المدنيين في غزة بوحشية مفرطة.

كذبة الغرب التي روّجها عن نفسه في تقبله للآخر تكشفت رويدا رويدا وسقطت سقوطا مروّعا في الحرب على غزة.

العالم انتفض من غفوته الطويلة مطالبا بنظام عالمي جديد، وهو ما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية منعه بكل ما تملك من قوة وأدوات تأثير، لكنها لن تستطيع مواصلة تحمل فواتير فرض نفوذها بالقوة العسكرية شرقا وغربا، ديونها الثقيلة التي لا تؤرقها بسبب نفوذها سيحين يوما سدادها، حين يتراجع نفوذ الدولار عن كونه عملة التبادل الدولي الأولى.

يمكن لدول العالم الكبرى والنامية أن تنعم بالاستقرار والتنمية المستدامة والحفاظ على كوكب الأرض من مخاطر تغير المناخ، لو تقبلت الدول الكبرى الخلافات بينها وناقشتها طبقا لمعايير معترف بها من الجانبين ونبذت سياسة المعايير المزدوجة. العالم يحتاج إلى الأمل مع بداية عام جديد وتمنياتي أن يقود العالم زعماء يتمتعون بالحكمة وينظرون إلى العالم نظرة تعاونية وليست نظرة استعمارية استغلالية فردية النزعة يمكن أن تؤدي بكوكبنا إلى الهلاك.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان