مع تواصل حرب الإبادة.. ماذا نحن فاعلون؟!

على أبواب شهرها الرابع دخلت الحرب في غزة مرحلة تكسير العظام، وتكاد تكون الاشتباكات الضارية متواصلة بلا انقطاع في عدة محاور، خاصة في خان يونس وبيت حانون ومخيم البريج وحي الشيخ رضوان وحي التفاح، وباءت بالفشل كل محاولات الصهاينة في السعي نحو تحقيق أي نصر يستر عورتهم ويحسن وضعهم التفاوضي في مواجهة ثبات رجال المقاومة، وإصرار القيادة على فرض شروطها التي اعترف الاحتلال بها أخيرا.
وهو ما يعني بوضوح أن اليد الطولى في الميدان للمقاومة وإلا فما كان لها أن تفرض شروطها بالوقف الكامل للقتال والانسحاب من القطاع قبل الحديث عن مصير الأسرى، في حين يصر نتنياهو على الهروب إلى الأمام بسعيه لتوسعة دائرة الحرب بالتحرش بمصر وانتهاك سيادتها على أراضيها، عبر تصريحاته الاستفزازية عن ضرورة أن يكون محور فيلادلفيا تحت سيطرة جيش الاحتلال، وذلك بالتزامن مع كلمات وقحة أطلقها اليمينيان المتطرفان أفيغادور ليبرمان وسموتريتش عن نزوح الفلسطينيين إلى سيناء، وإزاء هذه التجاوزات لم يعد الصمت فضيلة ولا السكوت من ذهب.
وتبدو المعركة أمام أنظار العالم ذات وجهين متناقضين، أحدهما ساطع ومتلألئ بفعل الأداء القيمي والإنساني للمقاومة البطلة وإنجازها التاريخي بدحر المحتل، وقد عبر عن ذلك “أبو عبيدة” بوضوح مساء الخميس الماضي 28 ديسمبر، في تقريره الشامل حول تطورات القتال، ووجه صفعة قوية حينما وصف عملية الطوفان بأنها “ضربة القرن” التي سحقت الصفقة المشبوهة بالقاضية ووضعت حدًّا للأسطورة المزيفة عن الجيش الذي لا يقهر، بعدما نجح الرجال في كسر غطرسته، وألحقوا به الهزيمة وكبدوه خسائر غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
الصمت على حرب التجويع خيانة
لكن لا ينبغي أن نركن إلى هذا الجانب المضيء من الصورة، فهناك زوايا أخرى لا تقل أهمية عن بث الأمل وبشريات النصر الذي لاحت بوادره، وما نعنيه يتعلق على وجه الخصوص بـ”حرب الإبادة” التي لم يعد السكوت عنها مقبولا، إذ لا بد من تحرك فاعل على الأرض لكسر الحصار الخانق على غزة، وإذا كانت الأنظمة العربية عاجزة عن الفعل، فعلى الشعوب أن تنتفض وتقول كلمتها وإلا فالعار يجللنا جميعا، وهو عار سوف يلاحق الشعوب تماما مثل الأنظمة التي كبلها التهديد والوعيد والخوف الشديد من بطش السيد ساكن البيت الأبيض.
يجب أن ننتبه إلى هذه الحرب القذرة التي يشنها عدو جبان يعمل على تعويض خيباته وعجزه عن مقارعة الرجال من مسافة صفر، بالهجوم على الأبرياء العزّل. وهي حرب تستهدف البشر والحجر وكافة المؤسسات المدنية والصحية والتعليمية ودور العبادة (جيش الاحتلال دمر أكثر من 200 موقع أثري وتراثي من بينها المسجد العمري أقدم مساجد غزة وكنيسة جباليا البيزنطية)، تنفيذا لمخطط تصفية القضية. وقد اعترفت صحيفة دير شبيغل الألمانية بأن ضربات جيش الاحتلال أدت إلى دمار 70% من مباني القطاع بما يفوق بكثير حجم الخراب الذي خلفته هجمات الحلفاء على ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
وإزاء هذه الجريمة النكراء، لم تستطع المؤسسات الدولية الصمت، ويمكن رصد أبرز ملامح مواقفها في تصريحات مندوبيها، حيث أعلن المفوض العام لوكالة الأونروا فيليب لازاريني أن القطاع لم يشهد انتشار الجوع بهذه الطريقة من قبل، كما حذر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية أدهانوم غيبرييسوس، من أن سكان غزة يواجهون خطرًا جسيمًا، متمثلًا في انتشار الجوع ونقص المواد الغذائية بشكل حاد، واعتبر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أن نهج التجويع الصهيوني بلغ مستويات غير مسبوقة مما يهدد باتساع رقعة انتشار الأمراض.
واعترف تسفي برئيل في صحيفة هآرتس باستخدام التجويع وسيلة قتالية حينما قال إن ما يدخل من مساعدات إلى غزة لا يلبّي سوى 10% من الاحتياجات. وفي ذات السياق فضحت فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، الجميع عندما قالت إن “الإبادة الجماعية” في القطاع تحدث بإذن من العالم، وقد أشارت بوضوح إلى أن المجازر التي تقع ينفذها “مرتزقة” من عدة دول دون أن يشير أحد إلى هؤلاء بصفة الإرهابيين الأجانب، واللافت أن الاحتلال واصل حرب التجويع وزاد من وتيرة الحصار، حتى بعد قرار مجلس الأمن بشأن زيادة حجم المساعدات الإنسانية إلى غزة، إذ لم يتحقق القرار على أرض الواقع برغم تفريغه من مضمونه بضغوط أمريكية من أجل تمريره.
تحية إعزاز وإكبار
هذه جوانب من الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهلنا في غزة لا تستهدف الإقلال من صمودهم الأسطوري على الإطلاق، ولا ينبغي أن تهز الصورة الناصعة لما قدموه من تضحيات، فقد تحملوا ويلات لا مثيل لها في عصرنا الحديث، لكنها تنبهنا إلى ضرورة التحرك سريعا ومد يد العون إليهم، إذ لا ينبغي أن نتعايش مع فكرة صمود المقاومة وثبات الشعب في غزة إلى ما لا نهاية، وعلينا أن لا ننسى أنهم ليسوا آلات صماء، بل بشر من لحم ودم يتأثرون بما جرى وتهتز نفوسهم لهول ما تعرضوا له طوال أيام وليال متواصلة، علينا أن ننفض عن أنفسنا صفة خذلان الأشقاء، فلا يصح أن نألف المشهد، كما يجب ألا نستهين بالأمر فالجوع “كافر” كما يردد عوام الناس، وقد تعوذ منه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- واصفا إياه بأنه “بئس الضجيع”، وقد انتفض أحرار العالم شرقًا وغربًا رفضًا لهذه الجريمة اللاإنسانية، وأصبح السبت يومًا ثابتًا للتظاهر في قلب أوروبا، حيث يخرج عشرات الآلاف في قلب لندن وباريس وغيرهما من العواصم، فكيف وإلى متى يبقى الصمت مطبقا في بلداننا؟!!
إذ تبدو كل شعوبنا العربية في حالة موت سريري باستثناءات قليلة في الأردن واليمن، علمًا بأن هناك غليانًا لدى البسطاء من الناس لكنهم لا يدرون ماذا يفعلون، وهم بحاجة إلى “قيادة” توجههم وتوظف طاقة الغضب لديهم لإعلاء صوتهم وتأكيد رفضهم لما يجري في الأراضي المحتلة، وأما فيما يخص هؤلاء الأبطال الذين ينحني التاريخ تقديرا لصمودهم المعجز، فينبغي أن نتريث قبل أن نمارس عليهم حلقات الوعظ والإرشاد، وأن نتمهل قبل أن نطالبهم بمزيد من الصمود، وهل كانوا في كل ما سبق إلا عنوانا ورمزا للصمود في مواجهة النازيين الجدد؟!!
ندرك أن الصهاينة يألمون كما نألم، وأن الكيان يواجه أسوأ كوابيسه ويعيش أسود أيامه وحجم الخسائر في كافة الميادين بلا حصر، وقد أصيب جيشهم بالهلع من الأشباح التي يواجهونها، كيف لا وقد رأينا ملمحا منها لدى البطل المقاوم الذي تحرك بثبات نحو الميركافا ليضع “الشواظ” داخلها في مشهد إبداعي مبهر يفوق كل تصور؟!
ومن هنا لعلنا نفهم حرص المقاومة على إرسال “رشقة” صواريخ في مستهل العام الميلادي الجديد، لتؤكد أنه ما زال في جعبتها الكثير، وأن المعركة التي انطلقت بطوفان تزخر بمزيد من التفاصيل التي سوف تزلزل الكيان اللقيط، وتجعلنا نقترب خطوات أكثر على طريق الألف ميل لتحقيق حلم تفكيك هذا الكيان المصطنع وزواله قريبا. ففي إطار المعادلة الصفرية وصراع الوجود مع الصهاينة لا مكان لهم بين ظهرانينا، وكامل الأرض لنا من النهر إلى البحر، يحدونا الأمل ولدينا يقين قد يراه الصهاينة ومن يدعمهم بعيدا لكننا نراه قريبا.
فيد الله تعمل في الخفاء ولسنا في عجلة من أمرنا.