عام من الوهن العربي والإسلامي

سيسجل التاريخ أن عام 2023 كان عام الوهن العربي والإسلامي بلا منازع، فقد أُثقلت صفحاتُه بمشهد غير مسبوق في التاريخ الحديث، لخصته الحرب الصهيونية على غزة، التي مثلت مرحلة تاريخية كاشفة في تاريخ الأمة العربية والإسلامية.
طوى عام 2023 سجلاته، وسلم راية الوهن لعام جديد، وما زالت المنطقة العربية تعيش مأزقا تاريخيا، وتعاني خللا فادحا في بوصلة تحديد المخاطر وبيان الاتجاه الصحيح، ويتخبطها التيه في تحديد مسارها، ومواجهة قضاياها المصيرية.
وبقدر ما توفر للدول العربية من فرص للخروج من مأزق هذه المرحلة التاريخية، جلبتها التفاعلات الدولية التي يعيشها العالم في مسار تحول مراكز القوى العالمية، غابت النظم العربية جبرا أو اختيارا عن اقتناص تلك الفرص، وأبت أن تنفك من أغلال التبعية المقيتة.
متلازمة هشاشة النظام العربي
وكما يعاني الجسد من الوهن والهشاشة، فإن النظام السياسي العربي القائم يعاني وهنًا قادت إليه الهشاشة الملازمة له منذ نشأته، بما لا يستقيم معه استمرار هذا النظام، حيث إنه داء الأمة العضال، ولا نجاة لها إلا أن تبرأ منه؛ لأنه نظام نخرت الهشاشة في هياكله وآلياته، وتعكس الجامعة العربية ذلك بوضوح؛ ولذلك يعجز النظام الرسمي العربي عن أداء الدور المنوط به في مواجهة التحديات الكبرى، التي تكاد تعصف بالمنطقة وشعوبها.
لقد كشفت الحرب الصهيونية على غزة مدى استفحال حالة الوهن، التي أصابت الأمة العربية تحديدا والإسلامية عموما نظما وشعوبا، وإذا كانت النظم هي المعني الأول فإن الشعوب معنية كذلك بتلك الحالة من الوهن، وإن كانت تبدو مقهورة مغلوبة على أمرها.
إن حالة الهشاشة التي يعاني منها النظام السياسي العربي هي متلازمة مرضية لهذا النظام منذ نشأته، فهو نظام لم تختره شعوب المنطقة، بل وضعه الاستعمار البريطاني والفرنسي؛ ليكون خادما لنفوذ تلك القوى الاستعمارية بعد الاستقلال الظاهري الذي حصلت عليه دول المنطقة.
تساهم القواعد التي قام عليها النظام العربي في تكريسه لخدمة مصالح القوى الاستعمارية الكبرى؛ فهو نظام قامت أركانه على أساس تجزئة الإقليم وتفتيته، وتعميق التبعية للقوى العالمية الكبرى، واستمرار تدخل القوى الأجنبية، التي يُعد الكيان الإسرائيلي المحتل أحد تجلياتها التي تضرب المنطقة في سويداء القلب.
وفي ظل نظام القطب الواحد، والهيمنة الأمريكية الغربية على النظام الدولي، تحولت المنطقة العربية والعالم الإسلامي إلى ساحة الصراع الرئيسية بين القوى الكبرى، في إطار تنافسها المحموم لترتيب مواقعها على الساحة الدولية، وأصبح أقوياء العالم يتواجهون لحل مشاكلهم على أرض العرب والمسلمين وعلى حسابهم.
وبعد حرب الخليج الثانية عام 1991، تعرض النظام السياسي العربي للتفجير، وأصبحت المنطقة العربية في حل من أي قواعد للتفاهم والحوار والتعاون، ودخلت المنطقة العربية خلال الفترة الماضية حروبا بينية، وحروبا إقليمية، وأصبحت في حالة من الاضطراب والفوضى، وأصبح الاستقرار مهددا. وقد زاد التدخل القوى العالمية الكبرى في المنطقة نتيجة لانهيار هذا النظام الإقليمي الذي رعته طوال العقود الماضية، وأصبح واضحا للعيان أن مصير المنطقة صار خاضعا للوصاية، وأصبح القرار فيه بعيدا عن أيدي شعوبها.
الاستعمار الجديد وتبعية المنطقة العربية
تؤكد الأحداث أن العالم العربي ما زال يخضع للاستعمار، والمستعمر الجديد هنا الولايات المتحدة الأمريكية، وريثة الاستعمار القديم، وهذا ما أكدته من جديد الحرب الصهيوأمريكية على غزة، وبدا أن غزة هي الأرض غير الخاضعة لأي شكل من أشكال الاستعمار في المنطقة، وما الحرب الوحشية الإبادية التي تُشن عليها إلا محاولة لإخضاعها جبرا بأي ثمن مع باقي المنطقة للاستعمار الأمريكي، الذي يسعى لترميم واستعادة هيبة ذراعه الاستعماري، المتمثل في الكيان الإسرائيلي المحتل، الذي يحمي المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة.
لقد طبقت أمريكا مع المنطقة العربية، سياسة الاستعمار الجديد، الذي يسعى لتحقيق السيطرة الكاملة عالميا، وما يستلزمه ذلك من خلق التبعية، وفرض الهيمنة المعنوية على شعوب المنطقة.
وحول سياسة الاستعمار الجديد التي انتهجتها أمريكا مع المنطقة، يقول أستاذنا الدكتور حامد ربيع: “إن أول أدوات السيطرة السياسية الأمريكية في ذلك يتمثل في تدعيم الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وتوسيع دائرة نفوذه، واستخدامه كأداة لتهديد أي قوة عربية، في منطقة القلب، وإن مفهوم الأمن القومي للكيان الصهيوني يمتد بحيث يحتضن في جانب آخر جميع أجزاء شمال إفريقيا حتى المحيط الأطلسي”.
ويضيف حامد ربيع، رحمه الله، أن الوجود الصهيوني في المنطقة يشلّ القلب، وهو بداية التدخل الأجنبي في المنطقة، وتساءل تبعا لذلك قائلا: فهل بعد ذلك تسعى الأمة لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني؟
وكأنه ينبهنا لما آل إليه واقعنا اليوم، حذر أستاذنا الدكتور حامد ربيع من أن أمريكا -المستعمر الجديد- تعمل على خلق حالة الشلل في وظيفة مصر الإقليمية، كما أنها اتبعت مع المنطقة سياسة شد الأطراف، التي بدأت مع الحروب الصليبية، لتكمل وظيفة الكيان الصهيوني في المنطقة، فإذا كانت إسرائيل تشل القلب، فإن القوى الجاذبة تشدّ القوى الموجودة خارج دائرة القلب، وهكذا تمنع المساندة. ولعل الحرب العراقية الإيرانية في أقصى الشرق، وبعد ذلك الحرب العراقية الكويتية نماذج واضحة لتأكيد هذا المفهوم.
ختاما
استقبل العالم والمنطقة العربية والعالم الإسلامي عاما جديدا من الوهن العربي والإسلامي، والحرب الصهيوأمريكية الإبادية الوحشية تدور رحاها ضد جزء من الأمة العربية والإسلامية، في حين تقف النظم الرسمية، المعني الأول بمآلات هذه الحرب، رغم ما لديها من قدرات وإمكانيات، عاجزة عن التوحد في موقف يحقن دماء العرب والمسلمين في غزة وسائر فلسطين المحتلة.
لقد تمكن الوهن من كافة مفاصل المنطقة العربية، وبالتبعية العالم الإسلامي، واستوطن جسد النظام العربي، الذي أصبحت دوله تعيش مأزقا استراتيجيا، وتهيم في فراغ استراتيجي، غير قادرة على اقتناص الفرصة التي قدمتها انتفاضة طوفان الأقصى، وتحولات مراكز القوى التي يشهدها العالم.
لقد أصبحت دول المنطقة وحكوماتها في ظل حالة الوهن المستفحلة أمام خيارات صعبة، تتساوى فيها مخاطر غض الطرف عن حرب الإبادة الوحشية الصهيوأمريكية ضد الفلسطينيين في غزة، مع مخاطر دعم المقاومة الفلسطينية في مواجهة المحتل الإسرائيلي وكيل المستعمر الأمريكي في المنطقة. لكن ما الحل؟ الحل في الانتفاض على الوهن، وفكّ الارتباط بالمستعمر، وإضعاف وكيله في المنطقة، ولذلك حديث وشأن آخر.