العرب غياب عن “محكمة العدل”

في ساحة محكمة العدل الدولية في لاهاي بهولندا تقف جنوب إفريقيا، الخميس المقبل، لحضور أولى جلسات الدعوى التي رفعها هذا البلد الإفريقي المهم ضد الكيان المحتل، يتهمه فيها بارتكاب جريمة “الإبادة الجماعية” بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
الخطوة المهمة وغير المسبوقة دفعت دولة الاحتلال إلى التأكيد على حضور الجلسة وتقديم ما ينفي التهمة عنها، خشية إصدار المحكمة قرارًا عاجلًا يُلزمها بوقف عدوانها على القطاع.
محكمة العدل الدولية حسب نص المادة 92 من ميثاق الأمم المتحدة هي “الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، وتقوم بعملها وفق نظامها الأساسي الملحق بالميثاق”. وحسب نص المادة 94 “يتعهد كل عضو من أعضاء الأمم المتحدة بأن ينزل على حكم محكمة العدل الدولية في أي قضية يكون طرفًا فيها، وإذا امتنع أحد المتقاضين في قضية ما عن القيام بما يفرضه عليه حكم تصدره المحكمة، فللطرف الآخر أن يلجأ إلى مجلس الأمن، ولهذا المجلس، إذا رأى ضرورة لذلك أن يقدم توصياته أو يصدر قرارًا بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ هذا الحكم”.
المحكمة من جانبها أصدرت بيانًا، يوم الأربعاء الماضي، قالت فيه إنها “ستنظر الدعوى التي أقامتها جنوب إفريقيا في جلستين، الأولى ستكون يوم الخميس وستستمع فيها إلى المرافعة الشفهية لممثلي جنوب إفريقيا، والثانية ستكون يوم الجمعة وستستمع فيها إلى مرافعة الجانب الإسرائيلي.
في اختيار جنوب إفريقيا -التي قطعت علاقتها بإسرائيل على خلفية العدوان- محكمة العدل الدولية تحديدًا لإقامة هذه الدعوى نوع من الذكاء السياسي، وضغط جديد تمارسه دول العالم على دولة الاحتلال لوقف عدوانها على قطاع غزة، ففضلًا عن المحاكمة بتهمة الإبادة الجماعية، من حق مقيم الدعوى أن يطلب من المحكمة اتخاذ “تدابير مؤقتة” من أجل وقف فوري لأي ضرر جسيم وغير قابل للإصلاح، وهو في الحالة الفلسطينية معناه توقف العدوان الهمجي، لأنه يشكل جريمة الإبادة الجماعية، هذا الطلب الذي ورد في دعوى جنوب إفريقيا هو الذي دعا دولة الاحتلال إلى حضور الجلسة خشية صدور قرار من المحكمة بوقف العدوان، وهو قرار -حسب ميثاق الأمم المتحدة- ملزم وواجب النفاذ.
غياب عربي
في معركة دولية وقانونية جديدة تقودها جنوب إفريقيا ضد العدوان المجرم ظهر الغياب العربي بشكل مخيب للآمال، فلم تعلن دولة عربية واحدة دعمها لدعوى الدولة الإفريقية، ولم تتحمس أي دولة في الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه للإعلان عن انضمامها إلى الدعوى، أو مشاركتها بأي صيغة تضفي غطاء سياسيًّا ودوليًّا جديدًا على المعركة القانونية المهمة التي أجبرت الاحتلال على التحرك لمواجهتها، فمن حق كل الدول الأطراف في معاهدة منع الإبادة الجماعية المشاركة في الدعوى بجانب جنوب إفريقيا، ولكن العرب اختاروا، حتى هذه اللحظة على الأقل، أن يغيبوا تمامًا عن المشاركة في الدعوى لإعلان موقف سياسي واضح ومباشر ضد الكيان المحتل يتهمه بالإبادة الجماعية، بل زاد الأمر بأن امتنعت الدول العربية عن التعليق على الدعوى بأي طريقة، ولم يصدر تصريح أو بيان واحد من النظام العربي الرسمي يُظهر تأييد ما فعلته جنوب إفريقيا، أو يكشف اهتمامًا خاصًّا بالحدث المهم، وهو ما دعا وزيرة خارجية جنوب إفريقيا إلى إصدار تصريحات منتصف الأسبوع الماضي تدعو فيه دول العالم إلى الانضمام إلى الدعوى القضائية ودعمها.
الأثر القانوني والسياسي
الدعوى القضائية الدولية التي أقامتها جنوب إفريقيا وضعت الكيان المحتل في خانة المتهم بشكل مباشر، وهي نوع من الضغط السياسي الجاد، فقد فضحت الدعوى الإجرام الصهيوني الذي فاق كل تصور بشكل أكبر، وأضافت مزيدًا من الضغوط على الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا، وهي الدولة الراعية للعدوان منذ اللحظة الأولى، ثم قبل كل هذا وبعده حشدت الدعوى دول العالم من جديد للتصدي للمحتل وإجباره على الدفاع عن نفسه ضد اتهامات تليق بعدوانه: الإبادة الجماعية.
حتى وإن كان الأثر القانوني ليس كبيرًا، أو سيحتاج إلى وقت طويل لكي يتم إصدار الحكم النهائي في الدعوى، فإن الخوف الصهيوني من إصدار المحكمة قرارًا “بتدابير عاجلة” وانحياز المحكمة لوقف العدوان بشكل فوري يكفي الآن ليضيف هزيمة جديدة للاحتلال، فإذا استجابت المحكمة لطلب التدابير العاجلة فإن “إسرائيل” ستمتنع عن تنفيذ الحكم، وهو ما سيدفع جنوب إفريقيا إلى اللجوء لمجلس الأمن من أجل تنفيذ “التدابير العاجلة”، وهنا سيكون المجلس مضطرًّا إلى دعوة “إسرائيل” لتنفيذ الحكم بالقدر نفسه الذي سيجبر الولايات المتحدة الأمريكية على استخدام حق النقض “الفيتو” من جديد ضد قرار متوقع صدوره من مجلس الأمن بما يزيد من عزلة الاحتلال وورطته الدولية، ويجعل من العدوان عبئًا أكبر على الإدارة الأمريكية التي تضررت بشدة من دعمها اللامحدود لإسرائيل وحربها الملعونة، ويفتح الباب لممارسة إدارة بايدن مزيدًا من الضغوط على نتنياهو وحكومته المتطرفة لوقف العدوان بعد أن بات العالم كله يرفض استمراره، ويستخدم كل الصيغ السياسية والقانونية المتاحة من أجل إنهاء حرب الإبادة التي فقدت كل انصارها بعد أن انهزم المحتل في كل معاركه الدولية، وبات لا يعتمد إلا على “فيتو” أمريكي يزيد من غضب العالم، ويعمق من الورطة الأمريكية التي منحت العدوان غطاءً سياسيًّا ليواصل حماقاته وجنونه فانفلت من كل قيد.
فرصة أخيرة لمشاركة عربية
طوال الأيام الماضية اختارت الدول العربية الغياب التام عن المشاركة في الدعوى القضائية التي انفردت بها جنوب إفريقيا حتى الآن، ومع ذلك تبقى هناك فرصة أخيرة لدول الوطن العربي لتصحيح الخطأ السياسي الفادح، واللحاق بركب مقاضاة دولة الاحتلال، أمام هذه الدول اختيار المشاركة عن طريق انضمام أساتذة القانون الدولي العرب في المرافعة والإجراءات القانونية التي أعدتها جنوب إفريقيا، فالدول العربية تمتلئ بالخبرات القانونية الكبيرة التي يمكن أن تضيف إلى الدعوى القضائية، فضلًا -وهو الأهم- عن الرسالة التي يمكن أن تبعث بها دول الوطن العربي إلى كل الأطراف الدولية إذا اختارت المشاركة عبر خبرائها القانونيين، وهي أنها ترى ما يحدث في غزة جريمة إبادة جماعية تتورط فيها “إسرائيل” وكل داعميها، وقد آن الأوان ليدفع المحتل ثمن إجرامه.