دبلوماسية الباندا.. عودة “يا يا” من واشنطن إلى الصين!

الباندا (الفرنسية)

 

تحولت عودة الباندا العملاقة “يا يا” (Ya Ya) من الولايات المتحدة الأمريكية إلى موطنها إلى قضية قومية، وضعها مركز أبحاث المستهلكين والدراسات الاقتصادية بايجوان “Baiguan” وصحف محلية في قائمة أهم 10 أحداث شهدتها الصين عام 2023.

رأى الباحثون ظهور “يا يا” هزيلة ومكتئبة بصور ومقاطع فيديو، قبل عودتها في 9 إبريل/نيسان الماضي، يُمثل إساءة لأشهر أيقونة وطنية، خلال فترة شهدت اضطرابا للعلاقات السياسية والعسكرية بين الصين والولايات المتحدة.

تعكس وسائل الإعلام اهتمام الشعب بأحد رموزه، والمخاوف بشأن علاجها من الاكتئاب وتساقط الفراء في أيامها الأخيرة بحديقة حيوان مدينة “ممفيس” الأمريكية، بعد استعارة دامت 20 عاما. أججت الباندا مظاهرات مليونية بمواقع التواصل الاجتماعي، استمرت لما بعد عودة “يا يا” إلى الوطن. لم ترجع “يا يا” بمفردها، فتبعها من واشنطن، ثلاثة أكثر منها شهرة، هي الباندا “مي تشانغ” (25 عاما) والذكر “تيان تيان” (26 عاما) وشبلهما الذي أنجباه في سن الشيخوخة “شياو تشي جي” (3 أعوام). تحتفظ الصين بملكية 70 باندا أخرى مؤجرة وأرحامها لمُدد قابلة للتجديد، بأهم حدائق ومراكز بحوث الحيوان في أغنى 20 دولة، لا يعرف المواطنون مدتها ولا العائد المالي من ورائها.

كنز القوة الناعمة

تُمثل الباندا للصينيين كنزا وطنيا مهيبا، يجسد تفردها بإرث شعبي قديم مُعرَّض للانقراض، مع ذلك يفضل الصينيون أن يكون “التنين” هو شعار الأمة، و”الأسد” رمزا للحكومة، ورغم أنهم يأكلون كل ما يطير ويمشي ويزحف على الأرض أو يسبح في الماء، فإن الباندا تظل الأكثر حظا. يشتهي الصينيون أكل الثعابين ومخ القردة، والحلوى المستخرجة من جلود الحمير، ومسحوق عظام وحيد القرن وسمك القرش وحصان البحر طلبا للفحولة، في حين يخشون تناول الباندا بوصفها من الحيوانات الخاملة جنسيا، وهو أمر يُعرّضها للانقراض. ينبع حظ الباندا من هيئتها السمينة ووجهها اللطيف، الذي حوّلها من رمز وطني إلى رسول المحبة بين الصين والعالم.

يضع جوزيف ناي أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد وصاحب مصطلح (القوة الناعمة) الباندا “بالنسبة لدولة الصين في كفة ميزان معادلة لجميع أفراد العائلة الملكية البريطانية، الذين يمثلون رصيدا رائعا ويضيفون قدرا هائلا إلى القوة الناعمة للبلاد”.

تَعُد وسائل الإعلام في بيجين الباندا واحدة من أقوى أسلحة الرئيس شي جين بينغ -كأسلافه- التي يستثمرها في بناء القوة الناعمة. تضخ مؤسسات الدولة معلومات ضخمة مباشرة من حدائق الباندا، على تويتر وفيسبوك ويوتيوب المحظورة بالداخل، وعدد لا يُحصى من مقاطع الفيديو على “تيك توك” و”ويبو” لدعم حالة الشغف العام بالباندا، وربط صورة الصين بلطف الباندا المحبوبة.

في حديقة الباندا

بفضل الباندا تحولت تشنغدو عاصمة منطقة ستشوان، موطنها الأصلي، من قفر بعيد على حواف جبال التبت بجنوب غربي البلاد، تعاني كثرة الزلازل والفيضانات المدمرة، إلى مدينة سياحية وصناعية تنافس في ثرائها وشهرتها بيجين وشانغهاي وقوانغتشو. في زيارات عديدة للمقاطعة، رأينا كيف حولت حديقة الباندا الوطنية على مساحة آلاف الكيلومترات، اقتصاد 90 مليون نسمة هم سكان الإقليم، إلى أهم مركز للأعمال والمال والنقل، يربط قلب الصين بمسارات طريق الحرير إلى أوروبا وجنوب آسيا وغربها.

يضم الإقليم تناقضات صناعات المحطات النووية والكهرباء ومناجم الفحم والتعدين، والسدود النهرية العملاقة، مع السياحة وانتشار أشهر وأغلى بيوت الموضة من أنحاء العالم، التي تحرص على وضع منتجات الباندا كأيقونة على الملابس والنظارات والحقائب والمأكولات ومعارضها.

رغم عددها الضئيل الذي لا يتعدى 500 حيوان في أنحاء العالم، زار مهد الباندا -وفقا لإحصاءات المقاطعة- 26 مليون سائح محلي ودولي عام 2021، فحققت دخلا بقيمة 1.13 تريليون يوان، رفع نصيب دخل الفرد إلى 450 ألفا و755 يوان، بمتوسط 64.3 ألف دولار سنويا. فوجئنا عند زيارة المركز البحثي بمحمية الباندا، كيف أسهمت الجهود العلمية وتكنولوجيا الحقن المهجري في استيلاد من 6 إلى 9 دببة بدورة الولادة، بدلا من واحدة كل عدة سنوات. رفع الاستيلاد أعداد الباندا من 100 حيوان عام 2000 إلى 500 عام 2016، ومع ذلك غضبت الصين عندما قرر الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة خفض تصنيف معدل الخطر الذي تواجهه الباندا رسميا من “مهدَّد بالانقراض” إلى “مُعرَّض للخطر”. يضغط المسؤولون من أجل التراجع في التصنيف، خشية أن تصبح الباندا أقل قيمة، فتهدد عائدات السياحة والدخل من تأجيرها للخارج، والأهم ألا تفقد الصين مصدر قوتها الناعمة.

عودة بقرار رئاسي

بدأت دبلوماسية الباندا عام 685 ميلادية، منذ أهدت الإمبراطورة وو تسه تيان زوجا من الدببة إلى اليابان. وصلت أول باندا مهربة إلى الولايات المتحدة عام 1936، مع مستكشفة أمريكية، فأثارت فضول العائلات، تبعها إهداء الجنرال شيانغ كاي شيك زوجا منها إلى حديقة حيوان أمريكية عام 1946. بعد زيارة الرئيس نيكسون للصين عام 1972، وانفتاح الحزب الشيوعي على رأسمالية الغرب، أرسلت الصين زوجا إلى واشنطن العاصمة، تبعها ارسال 12 دببة إلى كل من المملكة المتحدة واليابان وفرنسا وألمانيا وإسبانيا والمكسيك وهولندا وفنلندا وإندونيسيا والدنمارك. يرصد مركز الأبحاث بصحيفة (فايننشيال تايمز) علاقة وثيقة متصاعدة بين نمو وحجم علاقات الصين الاقتصادية والدول الحاصلة على أعداد الباندا، فالاتحاد الأوروبي به 18 باندا واليابان 11 ولا يزيد بباقي الدول على 4، بينما احتفظت الولايات المتحدة بـ12 منها، إلى أن اضطربت العلاقات السياسية، عقب إسقاط واشنطن “البالون الجاسوس” فوق أراضيها، والاحتكاك بين قوات البلدين بمضيق تايوان في فبراير/شباط 2023.

أثناء اتصال الرئيس شي بنظيره الأمريكي بايدن ليلة رأس السنة، طمأنه بأنه ماض في إنهاء إجراءات عودة الباندا إلى حديقة حيوان واشنطن، التي افتقدها الجمهور منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي. استئناف العلاقات الدافئة بين بيجين وواشنطن، دفعت “شي” خلال لقائه بكبار رجال الأعمال الأمريكيين في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إلى إعادة “مبعوث الصداقة، تلبية للعلاقات الودية العميقة بين الشعبين”.

عادت “يا يا” وسط أجواء متوترة بقرار سيادي أسعد الشعب، وسترجع أو أخواتها إلى واشنطن بقرار رئاسي، بما يعكس مخاوف الصين من خطورة تخليها عن “قوتها الناعمة” في وقت تتفاقم فيه أزمة اقتصادية عميقة، تثير مزيدا من غضب المواطنين.

الكاتب في حديقة الباندا

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان