بيروت قبل اغتيال العاروري وبعده
انطباعات وملاحظات زائر

الزائر لبيروت هذه الأيام، وتحديدا لوسط المدينة، يلاحظ على حوائط الطرق التي أصبحت بحلول المساء شبه مقفرة معتمة جراء الأزمة الاقتصادية، كيف تتجاور ثلاثة أصناف من الشعارات/ التعبيرات السياسية، وسواء أكانت بخط اليد أو مكررة بتقنيات “الجرافتي”، وهي: تلك المتخلفة عن انتفاضة الشباب عام 2019 ضد الطبقة السياسية/ المالية المتنفذة ونظامها الطائفي، وهذه المناصرة لغزة وفلسطين، وثالثها ما يمكن وصفه بـ”العدمية” التي تتجاوز السياسي والاجتماعي إلى الإنساني الوجودي.
أما تلك الرسائل السياسية في فضاء الشارع، التي تحاكي الإعلانات العملاقة الاحترافية لبيع الشقق في قبرص واليونان ونجوم إعلام الشاشات التلفزيونية والفن، فتعتمد لغة غير مباشرة. ولعل أكثرها حضورا هو هذا الإعلان بخلفية غارقة في السواد، وهو يحذر من حرب مدمرة بعبارة: “لبنان لا يريد الحرب”.
شعارات ساخنة
لا تجرح ولا تستفز
وفي كل الأحوال، فإن كل ما صادفني من تعبيرات سياسية بشوارع وسط بيروت يبدو خاليا من التصريح بأسماء شخصيات أو أحزاب سياسية، فهي لا تجرح أو تستفز الفرقاء شركاء الوطن. ولا أعرف ما إذا كانت بلديات أحياء المدينة تمارس بنشاط وهمة غير محسودين محو ما قد يفتعل المشاحنات؟ أم أن كل من وضع شعاره السياسي التزم باتفاق غير مكتوب بين اللبنانيين من أجل الحفاظ على المساحة الأوسع لحرية التعبير بالعالم العربي، مع تجنب تحول تعدد الانتماءات السياسية والتحالفات الإقليمية من “التعايش” إلى “المواجهة” وما يهدد “السلم الأهلي”.
وعلاوة على هذا، يبدو من استقراء كلام وخطابات الناس في الشارع وأحوال غالبية من تصادفهم على اختلاف الهويات، أو بالأدق الأصول الدينية والطائفية والثقافية، انخفاض منسوب الاهتمام بالسياسة، أو هكذا تسير الأمور كما لاحظت مقارنة بزيارة سابقة صيف 2016، في بلد إلى اليوم بلا رئيس دولة منذ نحو 14 شهرا، وحكومته و”نجيب ميقاتي” رئيسها “تصريف أعمال” ليس إلا منذ مايو 2022.
لكن وفي الأغلب أيضا هذا “لا يهم أيضا”، ليس فقط لأن حياة الناس تسير، وربما تبدو للقادمين من خارج لبنان أفضل مقارنة بالكثير من الدول العربية ذات الحكام الأقوياء الأبديين المدججين بأعنف القوانين وأقوى وأخطر أجهزة الأمن السياسي، بل ربما لأن عبارة “بيار الجميل” مؤسس حزب الكتائب “قوة لبنان في ضعفه” حاضرة، وإن كانت بالطبع ليست محل إجماع أو اتفاق بين اللبنانيين.
هذا الضعف العظيم
ولعلنا في عام 2000 اكتشفنا وحاولنا الكتابة في صحفنا خارج لبنان، مع الاختلاف مع ماضي “الجميل” وما يمثله، عن عظمة هذا “الضعف”. وهذا لأنه أهدى العالم العربي انتصارا نادرا على العدو الصهيوني في جنوب لبنان، وانسحابا لجحافل جيشه بدون اتفاقات ومعاهدات غير عادلة. وهو مالم يكن ممكنا أو متصورا وما زال في ظل سطوة سلطة دولة قوية، تصادر المقاومة المسلحة والمبادرات المدنية والحريات سواء بسواء. وكما هو حالنا منذ ما يزيد على سبعين عاما وفق “كتالوج” دول ما بعد الاستقلال عندنا.
وبصرف النظر عن الجدل حول علاقة إيران “بحزب الله” في لبنان و”الحوثيين” في اليمن، وإلى أي حد تلعب دور المحفز أو الكابح في الانخراط “بقتال جبهات المناوشة” ضد الكيان الصهيوني بعد 7 أكتوبر، فإن العبارة مع تطويرها على هذا النحو: “قوة المقاومة في ضعف الدولة” تحضر اليوم بقوة مجددا، ومعها دوام التساؤل والاندهاش.
هل تلام الدولة اللبنانية
في اغتيال الضاحية الجنوبية؟
ولكن هل تلام “الدولة اللبنانية الضعيفة” على تجرؤ تل أبيب على سيادة لبنان، واغتيال الشهيد “صالح العاروري” نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خلال اجتماع مع قيادات للحركة على الأرض اللبنانية، وفي الضاحية الجنوبية لبيروت معقل وعرين “حزب الله” على المستويات القيادية السياسية والإعلامية؟
هذا السؤال على الأرجح، لا يثير كثير جدل بين النخب وفي الصحف بلبنان. وذلك لأربعة أسباب:
الأول لأن “الموساد” قام في السابق بالعديد من الاغتيالات المماثلة منتهكا سيادة دول عربية وأجنبية تحكمها سلطة مركزية قوية، كما جرى على سبيل المثال لا الحصر في تونس 1988 و1991 مع الشهيدين “خليل الوزير أبو جهاد” و”صلاح خلف أبو إياد” القيادين بحركة فتح. ومن قبل اغتيال القيادي بالـ”جبهة الشعبية” الشهيد “د. وديع حداد” في بغداد 1978.
والسبب الثاني لأن لبنان نفسه وحتى قبل الحرب الأهلية شهد اغتيال قيادات ورموز للمقاومة الفلسطينية. وبعد “العاروري”، يجري هنا على نحو لافت استحضار اغتيال الشهيد “غسان كنفاني” قرب منزله بتفجير سيارته في ضاحية “الحازمية” قرب بيروت، وهو الأديب والصحفي البارز دون انخراط في العمل الفدائي المسلح.
والثالث أن لبنان ظل يشكو رسميا من الانتهاكات والاعتداءات والأطماع المتكرر المستمرة، قبل 6 أكتوبر 2023، على ترابه ومياهه الإقليمية ومجاله الجوي وسيادته والعديد من ثرواته الطبيعية.
وكان مواطنوه منذ تأسيس “إسرائيل” بين ضحايا عدوانية الإرهاب الصهيوني، حتى قبل استضافته للمقاومة الفلسطينية ممثلة في منظمة التحرير. بل لم تصنه قوات الطوارئ الدولية من المجازر، كما وقع في “قانا” 1996 و2006. ولم يمنع القرار الدولي 1071 لعام 2006 والتجديد للقوات الدولية في جنوبه إلى الآن استمرار هذه الاعتداءات، التي لا تملّ الخارجية اللبنانية من رفع شكاوى توثقها إلى الأمم المتحدة، بلا رادع.
بل إن معظم تقارير الأمين العام للأمم المتحدة الدورية المرفوعة إلى مجلس الأمن كل 6 أشهر لمتابعة تنفيذ القرار تؤكد عدم احترام إسرائيل لبنوده، ومواصلتها الانتهاكات الجوية اليومية للسيادة اللبنانية واحتلال الجزء الشمالي من قرية “الغجر”. وهذا وفق ما ذكره الدبلوماسي “طارق متري” وزير الخارجية اللبنانية بالإنابة خلال حرب يوليو/ تموز. وقد خلص في كتابه “حرب إسرائيل على لبنان: عن قصة القرار 1701” الصادر في نوفمبر 2022 عن “المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات” ببيروت إلى أن هذا القرار “حقق بعض ما أريد منه من حيث وقف الأعمال العدائية. لكن الالتزامات المتبقية التي تؤهله لأن يصبح وقفا لإطلاق النار لم تحترم” (ص 21).
أما السبب الرابع فتلخصه عبارة تتردد على لسان عدد من اللبنانيين بعد اغتيال “العاروري”، وهي: “أمن الضاحية الجنوبية فعليا في عهدة حزب الله”.
وفي كل ما سبق ويجرى إلى اليوم، ما يفسر لماذا يتجاوز “عدم القبول بإسرائيل” مع توقع الأسوأ منها، حدود الانقسامات الدينية والطائفية، وربما الطبقية الاجتماعية الثقافية أيضا.
تباينات وتحولات
القوى السياسية
قبل اغتيال “العاروري” بأيام كانت النخبة/ الطبقة السياسية في لبنان وصحافتها بنهاية عام 2023 منشغلة بالنجاح في تجنب الفراغ بقيادة الجيش، وذلك بتمديد مجلس النواب للعماد “جوزيف عون” عاما آخر بعد سنّ التقاعد، إثر “توافق عسير” بين القوى السياسية الطائفية المتنفذة. وهو ما فتح الباب لأن يدخل اسمه إلى “بورصة” المرشحين لرئاسة الدولة.
وهذا على أمل إنهاء ما كان من مأزق العجز المستحكم عن تمرير أي من “سليمان فرنجية” المدعوم من نواب “حزب الله” و”حركة أمل”، أو “جهاد أزعور” مدير إدارة الشرق الأوسط بصندوق النقد الدولي مرشح الوجه الآخر للاستقطاب بلبنان: “القوات اللبنانية “بزعامة “سمير جعجع” و”الكتائب” برئاسة “سامي الجميل” و”التقدمي الاشتراكي” لوليد جنبلاط، وكان أن انضم إليهم “التيار الوطني الحر” بقيادة “جبران باسيل” خليفة الرئيس السابق “ميشيل عون” في رئاسة هذا الحزب.
لكن ما يسمى بالمعسكر “المسيحي السياسي” بدا مع الحرب على غزة منقسما، وليس موحدا على هذا النحو. فقيادة “التيار”، منذ بدايتها وتسخين “حزب الله” جنوبا، تعبر عن مساندة غير مشروطة أو متحفظة لخيار المقاومة في الجنوب، بوصفه دفاعا استباقيا عن لبنان والنفس. ولعل هذا، إلى جانب اعتبارات أخرى داخلية، أسهم في إعادة التقارب بين “التيار” و”حزب الله” بعد تدهور ترجمه اختلاف المواقع في السابق بشأن دعم مرشحي الرئاسة “فرنجية” و”أزعور”.
ويتمايز موقف “التيار الوطني” بشأن خيار المقاومة في الجنوب تماما عن “القوات” و”الكتائب”، فقد جاهرا باتهام “حزب الله” باختطاف القرار اللبناني على نحو غير شرعي، وبلا نقاش مع حكومة أو برلمان أو توافق بين الأحزاب، لصالح “أجندة” طهران و”صفقة” في الأفق تدخلها مع واشنطن.
لكن في كل الأحوال، نلاحظ أن تعبير القوى المناوئة في الأصل “لحزب الله” عن اعتراضها على “تسخين” الحدود مع فلسطين المحتلة جاء أقل حدة وأقرب إلى “التحفظ” إذا ما قورن بمواقفها خلال حرب يوليو/تموز 2006. كما بدا متعافيا من التحريض على الفلسطينيين ومقاومتهم ومساهمتها في “القتال المناوش” عبر حدود جنوب لبنان منذ 7 أكتوبر. ومعلوم أن هذا التحريض كان قد بلغ ذروته خلال الحرب الأهلية (75 ـ 1990)، وعلى أعتابها. واتخذ له أفكارا وأيديولوجيات مغرقة في الطائفية والانعزالية، وتحت رايات “القومية والشيفونية اللبنانية” في مواجهة ومعاداة مع العروبة والقضية الفلسطينية، إلى حد التحالف مع إسرائيل والقبول بالصهيونية.
وهنا متغير مهم يدخل في الحسبان، وهو أن توجهات “القوات” و”الكتائب” المناهضة “لحزب الله” ومن خلفه كل ما يسمى “بمحور المقاومة”، أصبحت تفتقد حليفا وظهيرا بين “السنة”، وذلك مع خروج “تيار المستقبل” و”آل الحريري” تقريبا من المسرح السياسي كما تجلى في الخسارة الفادحة في الانتخابات البرلمانية 2022. وهذا بينما تجرى مبادرات من أجل قيادة سياسية بديلة للطائفة، ومن أبرزها “تكتل التوافق الوطني” برئاسة النائب “فيصل كرامي”، المقرب من “حزب الله”.
ومع إدراك التباينات والتحولات على خريطة القوى السياسية اللبنانية هذه، يتعين ملاحظة إجماع بينها على شعار ومطلب “وقف الحرب على غزة”. وهنا يتجلى وعي مشترك بمخاطرها على الأوضاع في لبنان، واقتصاديا أيضا. وبما في ذلك أعباء قدوم موجة جديدة من اللاجئين الفلسطينيين، تبدو للبعض ببيروت غير مستبعدة تماما.
احتفالات “الكريسماس”
وتنبؤات نجوم رأس السنة
عشية حدث الاغتيال في الضاحية الجنوبية 2 يناير/كانون الثاني 2024، بدا اللبنانيون وكأنهم أكثر اكتراثا واتحادا حول تنبؤات المنجمين عن العام الجديد. ولا أعرف ما إذا كان هناك شعب في عالمنا العربي يصل به الشغف إلى حد الهوس بمتابعة برامج التلفزيونات المحلية مع بداية العام التي تتسابق في استضافة نجوم التنبؤات المستقبلية استنادا إلى قراءة الأبراج والنجوم والأفلاك؟ ولذا لم أندهش بعدها عندما صادفت داخل حرم الجامعة الأمريكية ببيروت أستاذا متقدما في العمر، وهو يرى في حركة ونعيق جماعيين للغربان في السماء الغائمة مع حلول الغروب نبوءة بكارثة ستحل بالبلد.
وعلى كل، فإن شيوع التفكير على نحو غيبي وغير علمي ولا يستند إلى معلومات وحقائق يظل واردا عند مختلف الشعوب تحت وطأة معاناة الغلاء والأزمة الاقتصادية الطاحنة، ومع التفاوت الهائل في مستويات ومظاهر المعيشة، وإعادة تدوير “التنجيم” واستغلاله تجاريا كـ”بزنيس” يدر على أصحابه أموال إعلانات طائلة. وهذا أيضا مفهوم في ظل الإحباط من إنجاز التغيير، وحتى بدا وكأن الشباب الذي انتفض في مواجهة الفساد والطائفية والمحاصّة والزبائنية لم يعد أمامه إلا اقتفاء الحل اللبناني العتيق: الهجرة إلى الخارج.
لبنان، الذي لم يبرأ من انقساماته على الرغم من المعاناة والإحباط والسير على دروب الآلام وصراط المخاطر، لم يكن عند مسيحييه إجابة واحدة بشأن سؤال فرض نفسه مع بداية هذا العام، وهو: هل يصح الاحتفال “بالكريسماس” ورأس السنة مع ما يجري في غزة ولأهلها؟ فهنا لافتات تدعو إلى الامتناع، وهناك مظاهر احتفال بجوارها، وفي هذا الحي أو ذاك. لكني كنت شاهدا على عظات آباء قساوسة في كنائس ببيروت، اختارت مظاهر احتفال “متحفظ”، واهتمت بالدعاء لغزة وللشعب الفلسطيني بأسره ومن أجل سلامه ونصرته. وهو أمر لو تعلمون عظيم مقارنة بما أصبح محرما على مساجد بعض الدول العربية، وبتعليمات من السلطات الرسمية والأمنية المشرفة عليها.
وماذا بعد الاغتيال؟
مساء ثاني أيام العام الجديد، جاء اغتيال الشهيد “العاروري” ورفاقه وكأنه يعيد الجميع إلى حسابات المخاطر خشية تدمير مماثل لما حل بلبنان مع حرب صيف 2006. وهذه الحسابات لا تخلو من اتجاه ما زال يطمئن بأن ردود “حزب الله” و”تسخينه” في الجنوب تحكمه اعتبارات وتوازنات الداخل.
صحيح أن قواعد الاشتباك والخطوط الحمراء المتضمنة في القرار الدولي 1701، الذي وضع نهاية لحرب صيف 2006، جرى خرقها وتجاوزها على جانبي الحدود/ الجبهة، بما في ذلك الضرب الإسرائيلي خلف نهر الليطاني وظهور أسلحة المقاومة وعملها بينه وبين الخط الحدودي المسمى “الأزرق”. لكن في بيروت اعتقاد يبدو محل اتفاق واسع، وحتى بين خصوم ونقاد “حزب الله” والمقاومة و”الممانعة” ولدى المشككين في النيات والقائلين “بالأجندات”، في أن تل أبيب بالضرب في “الضاحية الجنوبية” هي التي تسعى لمواجهة أخطر وأوسع مع الحزب والمقاومة، وتدفع إليها. وفي الوقت نفسه، هناك رهان على جهود وضغوط أمريكية وفرنسية/ أوروبية تكبح “الثور الإسرائيلي الهائج” عن الانزلاق إلى “حرب شاملة” في لبنان، كما وقع في غزة. ومصداق ذلك توافد ممثلي دبلوماسية هذه الدول على بيروت خلال الأيام القليلة الماضية.
ومع هذا، يظل السؤال: هل يفكر “نتنياهو ” وعصابته الإجرامية في الهروب إلى قتال أوسع وأخطر مع لبنان من عواقب وأثمان حرب غير ناجحة في غزة والضفة دخلت شهرها الرابع بلا إنجاز واضح وعد به جمهوره؟ بأن ينتهز الفرصة لتوجيه ضربة استباقية للترسانة الصاروخية “لحزب الله”.
وهذا السؤال مطروح عند اللبنانيين، حتى لو بدت الحرب الشاملة مستبعدة.