ما بعد أيلول.. البقاء على قيد الوطن!

إذا كنت عربيًّا مهمومًا بأحوال أمتك من المحيط إلى الخليج، وترى مصر بيتًا كبيرًا لكل العرب وليست فقط مجرد مقر لجامعة الدول العربية، وإذا كنت قد عشت في ستينيات القرن العشرين، أو كنت أصغر من ذلك لكنك قرأت أو درست أو خبرت أو سمعت من آبائك تفاصيل ما جرى في صباح الخامس من يونيو/حزيران عام 1967 الذي أصبح تاريخًا فاصلًا في حياة العرب يؤرخ به لما قبله ولما بعده.
إذا كنت وقتها في شبه جزيرة سيناء المصرية أو في هضبة الجولان السورية أو في قطاع غزة الذي كان تحت الحكم المصري أو الضفة الغربية التي كانت خاضعة للسيطرة الأردنية أو في مزارع شبعا اللبنانية أو في القدس الشرقية ورأيت بعينيك اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي لكل هذه الأراضي العربية بسلاح غربي حديث مصحوب بدعم كبير وتواطؤ دولي لا لبس فيه.
التنحي والمرارة
إذا كنت تدرك عمق ما جرى للقوات المسلحة المصرية في هذه الحرب الخاطفة من تلقي ضربات مفاجئة عنيفة بواسطة طيران الاحتلال الإسرائيلي أدت إلى تدمير سلاح الجو المصري، وانسحاب عشوائي غير مدروس من شبه جزيرة سيناء، وردّ القيادة السياسية المصرية على الهزيمة المذلة من تنحي رئيس الجمهورية وقتها جمال عبد الناصر، ثم صدمة الشعب المصري والعربي بعد أن تكشفت حقيقة الوضع فكان الجواب مظاهرات عارمة ترفض الهزيمة والتنحي معًا وتطالب القيادة بالتثبت والعودة لتوجيه الدفة بدلًا من الاستسلام لغرق السفينة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
أبعاد الضربة الأمريكية لإيران
إذا كنت تدرك كل ما سبق وفوقه أن الأثر التي تركته هزيمة الجيوش العربية في ما أطلقت عليه إسرائيل حرب الأيام الستة وما اعتبره العرب نكسة؛ امتد وتطاول عبر الزمن حتى يومنا هذا رغم مرور سبعة وخمسين عامًا لم تخمد فيها نيران النكسة لدى الأفئدة ولا مرارتها في الحلوق والأهم هو الحاصل على الأرض من استمرار الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان في سوريا ولمزارع شبعا اللبنانية وللضفة الغربية وقطاع غزة وللقدس الشريف.
إذا كنت تُحصي السنون التي مرت والعروش التي هوت والأنظمة التي سقطت وأتعبك العد والإحصاء وأنت تقرر أن هناك أرضًا محتلة رغم أن هناك أخرى اسُتردّت بالقوة، وأن شعبًا ما زال يقاوم وحده تحت وطأة القهر رغم أن شعوبًا غيره تخلصت من الاحتلال الغاصب كله أو بعضه.
نكسات أخرى
إذا كنت شاهدًا على النكسة الكبرى التي جرت عام 1967 فلا بد أن ترصد ما أعقبها من موجة انتكاسات أصغر خرجت من رحمها ونمت على وقع الفُرقة العربية والخلاف السياسي والمكايدة، وتكفلت دول ومخابرات أجنبية وأجهزة أمنية بسقياها حتى أضحت واقعًا أليمًا لا يمكن الفكاك منه بسهولة.
إذا كنت حاضرًا في بداية سبعينيات القرن الماضي وعاينت أحداث أيلول الأسود عام 1970 وتناحر الفصائل الفلسطينية مع قوات الجيش الأردني وسقوط الآلاف بين قتيل وجريح، وخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن -الذي تركزت فيه بعد النكسة- إلى لبنان عبر سوريا.
وإذا عشت في ثمانينيات القرن الماضي وعاصرت غزو لبنان عام 1982 وحصار قوات الاحتلال الصهيوني لبيروت، وارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا وخروج فصائل منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس.
إذا عاينت ما جرى للفلسطينيين من قمع وتنكيل على يد الاحتلال الصهيوني في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الثمانينيات وانتفاضتهم بالحجارة عام 1987 واستمرار الإذلال الممنهج خلال عقد التسعينيات وانتفاضة الأقصى عام 2000.
إذا كنت تجلس أمام الفضائيات لتتململ في كرسيك وأنت تشاهد قصف إسرائيل المستمر لقطاع غزة منذ انسحابها منه عام 2005 وحتى غزوتها الهمجية التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي واستمرت حتى الآن.
في مهب الخذلان
إذا ضاق صدرك بما ترى في غزة من تمزيق وتقطيع لكل معاني الإنسانية ولتدمير كل ما فوق الأرض، ومن قتل على الهواء مباشرة وخارج إطار القانون، ومن قادة غربيين يتبجحون بدعم إسرائيل دون اعتبار لمواثيق حقوقية كتبوها وبشروا بها ثم مزقوها وبصقوا بها في وجوهنا إذا ذكرناهم بها.
إذا عشت هذا كله واحتشد لديك كل ما سبق وانفجر رأسك من هول ما مر بك من مآس عربية فلابد أنك تستعيد الآن رغما عنك شعورًا مماثلًا باليأس والإحباط معجونًا بالعجز، وقلة الحيلة يقبض على أنحائك، ويُلقي بك في مهب الخذلان، وأنت ترى وطنك الأكبر تحت قبضة العربدة الصهيونية مكتوف الأيدي مغلولًا عن مواجهة آلات القتل الغربية التي تديرها الأكف الإسرائيلية الملطخة بالدماء العربية.
سيزيد قهرك إذا كان الاحتلال قريبًا منك، تسمع أزيز طائراته وصليل مجنزراته، تصول وتجول دون رادع في أراضيك المحتلة من عدوٍّ متجبرٍ لا سبيل لمواجهته إلا برفع شعار المقاومة الشاملة بكل مستوياتها.
أما إذا كنت تنتمي لقُطْرٍ عربي لا احتلال فيه فأنت لست أسعد حالًا إذ تتكفل الشاشات والإذاعات لحظيًا بتذكيرك بأن هذا الهوان ليس عنك ببعيد، وربما يكون بلدك هو التالي حتى وإن كان هو النائي.
عودة أيلول الأسود
في يوم السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول الماضي ألقت إسرائيل بمئات الأطنان من القنابل الخارقة للحصون على عدة مبان تمثل مقرات رئيسية لحزب الله في الضاحية الجنوبية بالعاصمة اللبنانية بيروت وهو أمر معتاد منذ عقود.
سقط المئات من الضحايا بين قتيل وجريح كان بينهم رجل قصير القامة منتصب الهامة يرتدي عمامة سوداء تغلفها سيرة بيضاء في سجل المقاومة ومواجهة الاحتلال الصهيوني وأعوانه.
ارتقى السيد حسن نصر الله شهيدًا لتنتهي مسيرة زعيم استثنائي كان حضوره طاغيا بشخصيته القيادية وخبرته السياسية وقدرته على مخاطبة الجماهير والتأثير فيها، وكان ملهما ورمزا للمقاومة، وإلى جانب ذلك أثار الجدل بدعمه لقوات الرئيس السوري بشار الأسد ومشاركته في قمع الانتفاضات الشعبية ضد حكم العلويين منذ عام 2011، وكان هذا التدخل مثار انتقاد كبير في عدة بلدان عربية وفي لبنان ذاتها، ورغم هذا الموقف الجدلي فإن مشهد حياته الختامي كان شهيدًا في ساحة الجهاد ضد إسرائيل.
مفترق طرق
لا شك أن نجاح استهداف “نصر الله” وما تبعه من قصف جوي مركز وهجوم بري على لبنان واحتلال جديد لمناطق حدودية ضربة موجعة للمقاومة، لكنها إلى جانب ذلك نقطة فاصلة في الصراع العربي الإسرائيلي لن يكون ما بعدها شبيها بما قبلها تماما، كما كانت نكسة 1967.
كان استهتار القادة العرب بالعدوّ مع عدم الجاهزية لملاقاته هو النكسة الحقيقية التي مثلت انكسارًا لحلم الوحدة العربية، الذي كان عالي الصوت قليل الفعل في الستينيات، واليوم فإن استهتارًا مماثلًا يجري على قدم وساق لا تدرك فيه الدول العربية أنها ماضية إلى الأسوأ وأن تفرقها انتحار جماعي ونكسة جديدة في حد ذاته، وأن البقاء على قيد الوطن هو غاية المنى لدى كل عربي بعد نكسة السابع والعشرين من أيلول المغلف دائما بالحزن والسواد.