بين الفخامة في الجيزة.. والبؤس في المنيا!

سقوط عربات في الترعة الإبراهيمية نتيجة تصادم قطارين بمحافظة المنيا (وكالة الأناضول)

شتان الفارق بين فخامة مشهد الافتتاح لمحطة قطارات صعيد مصر في مدينة بشتيل، بمحافظة الجيزة، السبت الماضي، وبين بؤس مشهد التصادم في قرية ماقوسة، بمحافظة المنيا، صباح اليوم التالي، الأحد.

هذه القرية المنكوبة شهدت حادثتي قطار قبل ذلك في عامي 2016 و2021، مدن وقرى عديدة في مصر يُسجل في تاريخها كوارث القطارات، وهي بلا محطة توقف نهائية حتى مع الوزير الحالي، كامل الوزير، الذي يحلو للبعض وصفه بـ”وزير السعادة”، فهل السعادة في تزايد حوادث القطارات في عهده لتتفوق عدديًا على من سبقوه في المنصب، وهو الضابط الذي تم توزيره بدل المدني لوضع نهاية لمآسي حوادث القطارات؟

بين مصرين

ساعات قليلة فقط تفصل بين مصرين، مصر الدعاية والبهرجة والتصريحات الوردية والأرقام العظيمة والصورة القشيبة في افتتاح محطة القطارات، وبين مصر الأخرى الواقعية المصدومة الباكية في كارثة القطارين بالمنيا، وما سبقها.

مصر التي تتجمل فتبدو صارخة في مكياج سياسي شديد الاستفزاز، ومصر التي لا تكذب ولا تتجمل، إنما تكشف عن نفسها بمصداقية شديدة عبر أهم مشهد -ماستر سين كما يسميه صناع السينما- وهي صور عربتي القطار عندما سقطتا في ترعة الإبراهيمية المجاورة لخط السكة الحديدية الذي شهد التصادم الجديد بالمنيا، وقد لا يكون الأخير، طالما هناك إفلات من المسؤولية الشاملة، وغياب المحاسبة السياسية قبل الجنائية، مشهد مُزرٍ وصورة كئيبة لحالة المرفق.

هنا محطة قطارات الصعيد ذات النسق المعماري الفرعوني، ومن الداخل تفاصيل جميلة لزوم الافتتاح، وهناك خطوط سكك حديدية ومحطات في المحافظات والمراكز تنتمي إلى عالم آخر من الإهمال والسوء.

أين التطوير؟

ثم نقرأ ونستمع عن التطوير بمليارات الجنيهات لإنقاذ المرفق الذي كان في حكم الضياع لولا رجال المرحلة الذين قيضهم الله لبناء الدولة وانتشالها من السقوط، ثم نجد في الواقع أن التطوير هش وشكلي، وأن الصورة البراقة هي في حقيقتها مليئة بالندوب والسلبيات.

شتان الفارق بين الجمهورية الجديدة وهي صورة جذابة من الخارج وفي الداخل لا شيء مقنع فيها، وبين الجمهورية القديمة التي تفتك بها أمراض الإهمال والتجاهل وتركها لأهلها وشأنهم بها.

الجمهورية القديمة هي الأصل، وهي تراكم البناء خلال مراحل التاريخ، وكان يكفي أن تمتد إليها يد التطوير الجاد المسؤول المُراقب بضمير وأخلاق، وإذا حصل ذلك لكنّا أنفقنا واحدًا بالمائة فقط مما يتم إنفاقه على الجمهورية الجديدة المُغرقة في المظهرية، وهنا نكون قد طورنا وأنجزنا وأفدنا الناس واستفدنا مشروعات تنمية تظهر معالمها راسخة على الأرض.

لا تزال كلمات عفوية لسائق “تكتوك” قائمة وصالحة، كأنه حكيم المرحلة، عندما قال قبل 8 سنوات: “نتفرج على التلفزيون نلاقي مصر فيينا (عاصمة النمسا)، ننزل في الشارع نلاقيها بنت عم الصومال”.

أكبر عدد من الحوادث

كتبت هنا يوم 16 سبتمبر الماضي مقالًا بعنوان: (كوارث القطارات عُقْدّة تستعصي على الحل)، على خلفية اصطدام قطارين بمحافظة الشرقية.

وبعد شهر بالضبط يقع اصطدام جديد يؤكد أن العُقْدّة عصية على الحل حيث لم يطرأ تغيير جوهري في إدارة مرفق السكة الحديدية مع تولي الوزير الحالي الذي يشهد عهده أكبر عدد من حوادث القطارات، وخسائر بشرية ومادية، ثم يتم التهوين من شأن ما يحدث، ويستمر الوزير في منصبه، بل يترقى، ويحصل على منصب رفيع، ووزارة إضافية، وربما يكون وصف هذا الوزير هو الأطول في الحكومات منذ عقود، فهو نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية، ووزير الصناعة، والنقل، (9 كلمات في التوصيف، وتزداد إلى 13 عندما يُذكر اسمه كالتالي: الفريق مهندس كامل الوزير).

مقارنة بمن سبقوه من وزراء النقل الذين شهدت فتراتهم كوارث قطارات وتم إقالتهم لحادث واحد، (6 وزراء غادروا لهذا السبب)، وسليمان متولي صاحب أطول فترة في هذه الوزارة (20 عامًا) ترك المنصب بعد سقوط راكبة على القضبان كانت تقضي حاجتها في دورة مياه متهالكة، مقارنة بالسابقين، فإن الوزير الحالي يُعدّ محظوظًا ومدعومًا بلا حدود.

الإقالة ليست حلًا

الحقيقة أن المشكلة ليست في إقالة حامل حقيبة تستعصي أزمات وزارته على الحل، أصل المشكلة في نمط وصلب السياسات العامة وكيفية رسمها وتطبيقها وطريقة اختيار الأشخاص المكلفين بتنفيذها وتطويرها والابتكار فيها.

بل الأدق أن المشكلة في طبيعة النظام السياسي نفسه، نظام الحكم المطلق الذي تحكمه وتتحكم في كل مفاصله سلطوية لديها صلاحيات هائلة، ومجلس الوزراء والمعاونين ومختلف الدوائر ينتظرون توجيهاتها وتعليماتها وأوامرها ورغباتها لتنفيذها.

وقد لا تجد على طاولة النقاش الرسمي -إذا كان هناك نقاش منفتح حر- من يقول أنا اتفق واختلف، أوافق وأرفض، أو أن هذه السياسات غير مناسبة، ولا أجد نفسي راغبًا في تحمل مسؤوليات تنفيذها، لهذا أطلب إعفائي.

 إدارة خاصة

أين التطوير طالما حوادث السكة الحديدية تتوالى، والمحطات قديمة، والقطارات يتم دهانها وعرضها باعتبارها مطورة، وحرم الخطوط مفتوح على الترع والمصارف والمساكن ويتم إلقاء كل أنواع المخلفات على جوانبها.

ليت وزير النقل يقوم من نفسه بجولات على السكك الحديدية، وليته يكمل جولته على الطريق الدائري ومختلف الطرق القديمة والجديدة ويُعاين الإهمال وسوء حالة مطالعها ومخارجها والعشوائيات أسفلها والفوضى فوقها التي تنتمي في جانب منها إلى عالم ما بعد الصومال.

نعتقد أن الدواء شديد المرارة لمختلف العُقَد التي تستعصي على الحل في السكة الحديدية، وغيرها من المرافق، إما الإدارة الخاصة الحاسمة، أو الخصخصة لمستثمر وطني جاد طالما أن طبيعة السلطة المطلقة وبنيتها لا تتغير، وطالما أن الحكم الديمقراطي الرشيد -طوق النجاة للإصلاح الفعلي- هو عُقْدّة العُقَدّ، بكل أسف.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان