علاقة أمريكا بـ«إسرائيل» في سياق الإبادة الجماعية

الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (الفرنسية)

موضوعيًا، لا يمكن طرح العلاقة الأمريكية الإسرائيلية خارج إطار منظومة الاستيطان العالمية، إذ تشكل تجربة كل منهما ككيان استيطاني إمبريالي، قائم على الصراع والنفي والعنصرية، وتربط الكيانين خلفيات دينية وتاريخية وقيم عنف وإبادة متعددة الأوجه، تبرز موقع الكيان الصهيوني في أولويات السياسة الداخلية والخارجية الأمريكية، ودوره الوظيفي، رغم انحطاطه استراتيجيًا بالعقود الأخيرة، التي تزامنت أيضًا مع إعلان هزيمة النظام الإقليمي العربي طائعًا مختارًا، وفرض التطبيع والاختراق، وتوحش الاستيطان بالضفة الغربية المحتلة.

إقليميًا، ثمة جهود أمريكية متواصلة لإقامة منظومة أمنية، يُدمج فيها الكيان ليسيطر عليها، رغم خلافات إدارة بايدن مع نتنياهو وتحالفه اليميني الحاكم، وتمرده على المرجعية الاستيطانية الأمريكية التي تشكل جوهر آليات التحالف الأمريكي الإسرائيلي، ورغم تفاقم تكلفة استمرار المشروع الصهيوني أخلاقيًا ودبلوماسيًا واستراتيجيًا على رعاته بما يتجاوز العائد من وجوده.

علاقة عضوية أم وظيفية؟

من قضايا الشأن الصهيوني التي نالت قسطًا من النقاش في فضاء الفكر العربي المعاصر: طبيعة علاقة المشروع الإمبريالي الأمريكي المعروف باسم “الغرب” بالكيان الصهيوني ومشروعه الاستيطاني: هل هي علاقة عضوية أم علاقة وظيفية غير عضوية؟

وكان المفكر الراحل، عبد الوهاب المسيري، يراها علاقة وظيفية بامتياز، وأن الكيان الصهيوني مجرد “دولة وظيفية”: قاعدة عسكرية متقدمة وحاملة طائرات غربية، ما يفضي إلى إمكانية تصفية الكيان ومشروعه الاستيطاني وترسانته النووية وإزالة الأوضاع الجيوسياسية المرتبطة به، ومنذ اندلاع “طوفان الأقصى” تداول ناشطون أفكاره بكثافة حول الصهيونية ومآلات مشروعها الاستيطاني وضرورة رفع كلفة استمراره على حلفائه لإرغامهم على التخلي عنه.

ويعزز هذه الخلاصة نموذج “الجماعات الوظيفية” في علم الاجتماع الذي يفسر سوسيولوجية جماعات أو أقليات بشرية لا تنتمي لمجتمعاتها، بل تنحصر قيمتها في مهن أو “وظائف” تؤديها، تختلف باختلاف قيم كل مجتمع وتقاليده ومرجعيته، وبالتالي لا يُفسَّر الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل بسيطرة يهودية على الاقتصاد الأمريكي مثلًا، فأكثر القطاعات الاقتصادية المهمة لا سيطرة يهودية عليها: صناعات الحديد والصلب والنفط والكيماويات والهندسة والمصارف الكبرى والزراعة والصيد البحري، ويتركز نفوذهم في تجارة التجزئة والسمسرة وبنوك الاستثمار والبورصة والترفيه والخدمات.

المسألة اليهودية

تاريخيًا، كانت علاقة اليهود بالغرب المسيحي محكومة بثلاث محددات دينية وحضارية وجيوسياسية: المسألة اليهودية، المشروع الإمبريالي الغربي، تنظيم الاجتماع الغربي.

تاريخيًا، لم تتقبل أوروبا المسيحية وجود اليهود، وشهدت موجات شيطنة واضطهاد وترحيل جماعي وتمييز ديني وإثني، حتى بعد ظهور الليبرالية وتجلياتها ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا، وتم اختصار ذلك كله في “المسألة اليهودية”، وجاء الإصلاح الديمقراطي وتشريع الحقوق المدنية والمواطنة بالغرب كضرورة لتنظيم المجتمعات الأوروبية وتجنيدها في خدمة المشروع الإمبريالي وزيادة موارده البشرية، فكان لا مناص من تفكيك نظام الإقطاع مثلًا لعدم جدواه إمبرياليًا، وهذا فاقم المسألة اليهودية!

إذًا، لم يعد مُبرَرًا استمرار نبذ اليهود والتمييز ضدهم مع تمتعهم بالمواطنة، لكن باستثناء الإقراض بالفائدة (كإقراض البارون روتشيلد حكومة بريطانيا المال لشراء أسهم قناة السويس)، لا نفع لهم في المشروع الإمبريالي كباقي شرائح المجتمع التي مرت بعمليات “ترانسفير” تحويلًا وترحيلًا:

– ترحيل المساجين والمشاغبين للمستعمرات وراء البحار وتحويلهم لمستوطنين.

– تحويل الطبقات الدنيا وعبيد الأرض إلى بحارة في الأساطيل وجنود في جيوش الاستعمار وموظفين بإدارة المستعمرات.

– تحويل عشرات الملايين من الأفارقة المختطفين عبيدًا بمناجم الفحم ومزارع القطن والتبغ وقصب السكر بجزر الكاريبي والجنوب الأمريكي.

– شحن عشرات الملايين من الهند وإندونيسيا لمستعمرات جنوب إفريقيا والكاريبي والإنديز وتسخيرهم في المزارع والمناجم.

– تسخير السكان الأصليين الناجين من الإبادة بأمريكا الجنوبية في مناجم الفضة التي أفنت معظمهم.

ورغم فتور ممالك أوروبا ويهودها بداية تجاه الحركة الصهيونية وعدم اقتناعهم بـ”دولة اليهود”، لاح المشروع الصهيوني فرصة سانحة تبنتها بريطانيا لـ”تحويله” إلى حاجز استيطاني أوروبي يفصل مصر عن “آسيا العربية”، ويمنع أي وحدة كمشروع محمد علي بعد قرار بريطانيا في 1840، بلسان وزير خارجيتها لورد هنري بالمرستون (1784-1865)، أن سيناء هي الحد الفاصل لنفوذه.

الإبادة: إنكار وإقرار

إذًا تتسم العلاقة بين الغرب الاستعماري و”إسرائيل” بطابعها الوظيفي، كما بدأتها الإمبريالية البريطانية، وورثتها الإمبريالية الأمريكية بعد قيام “إسرائيل” وبعد حرب يونيو/حزيران 1967 بخاصة.

كان الأولى أن تكون علاقة الغرب عضوية بالكيان الاستيطاني النووي الأوروبي بجنوب إفريقيا ونظامه العنصري المعلن رسميًا قبل قيام “إسرائيل” بثلاثة أشهر، لكن الغرب اضطر لتفكيكه بفعل موجة عالمية من المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات، لتمكين الأغلبية الإفريقية من تقرير المصير، وفقًا لمبدأ يلخص نظام الأبارتهايد وأزمته وعنصريته وطريقة تفكيكه: “شخص واحد.. صوت واحد”.

كان رد فعل الغرب على صدمة “طوفان الأقصى” اندفاعًا نحو دعم “إسرائيل” وتسليحها وإمدادها بخدمات لوجستية واستخباراتية، وتبرير جرائمها، والتعامل مع الحدث كتهديد وجودي، واعتبار الرئيس الأمريكي جو بايدن المقاومة الفلسطينية عدوًا وتهديدًا لأمريكا والغرب مثل “روسيا”، ومساهمة قلب النظام الاستيطاني العالمي ودائرته الأنكلوساكسونية Anglo Sphere (أمريكا وكندا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا) في قيادة الحرب بوزارة الدفاع الإسرائيلية، والمشاركة بضباط وخبراء وتقنيات تجسس وجمع حربي، و”قوة دلتا” الأمريكية لحرب المدن، التي فقدت بداية الحرب أفرادًا حاولوا دخول غزة وعادوا أشلاء، ومشاركة استخبارية وعملياتية بعملية النصيرات لاستنقاذ أسرى إسرائيليين، سقط فيها أفراد أمريكيون.

إذًا رغم سماته الوظيفية، يشغل المشروع الصهيوني الاستيطاني موقعًا مركزيًا في النظام الاستيطاني العالمي والهيمنة الغربية، وتفكيكه تحت وطأة انقساماته وتناقضاته الداخلية وفقدانه الشرعية وتصاعد مقاومة الأمة، سيؤدي بالضرورة لبدء تفكك النظام الاستيطاني العالمي وانهيار السيطرة الغربية عالميًا.

يتساءل كثيرون عن أي فائدة عسكرية أو استراتيجية تُرجى من إبادة استهدفت في غزة المدنيين بنحو 3 آلاف مجزرة، وتجاوز ضحاياها 150 ألف شهيد ومفقود وجريح، وإحالة المستشفيات لمقابر جماعية وإبادة طواقمها ونزلائها، واعتقال الآلاف وقتل بعضهم تعذيبًا، وتدمير المنازل والمدارس والمرافق وآبار المياه، وقصف مئات من مراكز الإيواء، وإحراق خيام النازحين بقاطنيها وتدنيس المقابر؟!

لكن، يستمر إنكار بايدن وإدارته لواقع الإبادة الجماعية الدائرة، ويتواصل عدم استنكارهم لذبح المدنيين أطفالًا ونساء وشيوخًا يوميًا، مما يفضح قبولهم الكامل بالإبادة سبيلًا واقعيًا معقولًا لاستدامة الكيان الصهيوني وتمدده!

 

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان