ضجيج بالفناء الخلفي للبنان لا ينتظر نهاية الحرب

لو شئت بداية عاطفية تليق بشجوننا الجارية دمًا ودمارًا لمقال ينشد فهم الواقع ومخاطبة العقل لقلت: كم نفتقد في هذه الأيام الصعبة على أهلنا بلبنان وغزة، كلمات الكاتب والأديب اللبناني إلياس خوري المنحاز للإنسانية ولفلسطين ولوطنه وللشعوب العربية في مواجهة الصهيونية، وكل أسباب التخلف والطائفية وانعدام العادلة وغياب الديمقراطية أو تشوهها؟
لكنني عثرت في مواقف لبنانيين من خارج حزب الله وشيعته على ما يعوض بعض الشيء غياب عطاء كاتبنا الراحل، ويشير إلى طريق العقل.
حين يرتفع العقل والوطنية
على جراح ما كان
قبل أيام طالعت على صفحات التواصل الاجتماعي تدوينة لكميل داغر المفكر والمترجم والسياسي اللبناني الناقد لحزب الله تقول: “أيًّا كانت مآخذي الكبرى على مواقف حزب الله من أمور شتى، ولا سيما ضد الثورات العربية، أدعو لتقديم أقصى الدعم لمقاومته العدو الصهيوني”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
فخ التدخل الأمريكي.. يطفئ الحرب أم يشعل العالم؟
أبعاد الضربة الأمريكية لإيران
وبين صفوف اليسار اللبناني أيضا، لكن مع الاختلافات التاريخية والتنظيمية مع كميل، كتب المفكر والمؤرخ فواز طرابلسي رئيس تحرير مجلة “بدايات” الثقافية عن أطماع صهيونية في احتلال الأراضي اللبنانية حتى نهر الليطاني منذ عام 1919. كما نشر عبارة “الوطن باق والاحتلال إلى زوال”، وإن لم يذكر حزب الله أو مقاومته بالسلاح.
ما سبق يعود إلى شخصيات رموز تنتمي إلى يسار متعدد التوجهات والتجارب. ومع أن هذا اليسار لم يعد في مجمله وازنا في المعادلات السياسية ونتائج الانتخابات بلبنان بعد عقد الثمانينيات، فإن مثل هذه الشخصيات تحتفظ برمزيتها بين النخب محليا وعربيا.
ولو بحثنا في ساحات الطائفية السياسية إثر إشعال إسرائيل الحرب ضد لبنان، ربما الخامسة، للاحظنا حتى الآن مواقف في الاتجاه ذاته. ويندرج بينها سعد الحريري زعيم تيار المستقبل.
وبصفحة التيار على مواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) عبارات مقتضبة، للحريري الابن المقيم بالخارج، تشدد على وحدة اللبنانيين، وتدعو إلى التعالي فوق الخلافات. وفي 28 سبتمبر/أيلول الماضي نعى من كان زعيما للطائفة السنية بلا منازع ورئيسا للحكومة غير مرة، السيد حسن نصر الله في بيان ووصف اغتياله بـ”العمل المدان الجبان”. وتضمن نصًّا: “اختلفنا كثيرا مع الراحل وحزبه، والتقينا قليلا. لكن كان لبنان خيمة الجميع. وفي هذه المرحلة تبقى وحدتنا هي الأساس”.
تحفظ على استعجال
تغيير معادلة الداخل
السبت 12 أكتوبر/تشرين الأول، في المؤتمر الذي دعا إليه وقاده سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية تحت شعار “دفاعا عن لبنان/ تنفيذ القرارات الدولية 1701 و1559 و1690” كان لافتا تغيّب من يمثل تيار المستقبل، والحزب الاشتراكي/ كتلة اللقاء الديمقراطي البرلمانية/ وليد جنبلاط الممثل الأبرز للدروز، وكذا التمثيل المتواضع لحزب الكتائب.
وهكذا يتضح أن المعارضة المناهضة لحزب الله بدت غير ملتفة حول هذا المؤتمر، الذي يعد أبرز إعلان سياسي جماعي بأن ثمة فرصة تلوح خلال الحرب أو في اليوم التالي لسكوت المدافع لتغيير معادلة القوى داخل لبنان، وما تعكسه من توازنات محاور إقليمية دولية. وهذا بعدما عقد نواب كتلتي القوات والكتائب مع كتل أصغر بالبرلمان مؤتمرا صحفيا في 7 أكتوبر تحت عنوان “إنقاذ لبنان من أتون الحرب وتبعاتها وإعادة بناء مؤسسات الدولة”، وتحدثوا خلاله عن ثمن باهظ لحرب مدمرة يدفعه شعب لم يكن له خيار فيها.
وجاءت مقررات مؤتمر جعجع وكلمته الختامية وما وصف بأنه “خارطة طريق لإنقاذ لبنان” أوضح في التركيز على شعار “استعادة الدولة”، وذلك “بالإسراع بانتخاب رئيس جمهورية لا يترك سلاحا خارجها”، والمقصود نزع سلاح حزب الله. وهو ما ينسجم مع الأجندة الأمريكية وأولوياتها.
لا تستقووا على حزب الله
هذا الاستعجال في قطف ثمار الحرب الصهيونية على حزب الله ولبنان وقلب موازين القوى من جانب المعتقدين “هزيمة” حزب الله، لا مجرد إضعافه، يجد بين معارضي الحزب التقليديين تحفظا تعبر عنه أصوات عاقلة.
ومثال ذلك مقال لغسان حجار مدير تحرير “النهار” بعنوان “لا تستقووا على حزب الله” نُشر في 11 أكتوبر الجاري. فقد نبه المقال إلى خطورة استغلال ما يعانيه ما سمّاه “الشيعية السياسية” بعد الضربات الإسرائيلية للحزب واغتيال زعيمه نصر الله، وقال إن “كل انكسار لطرف لبناني له تداعياته على كل الوطن”، وحذر من أن الرهان على “استقواء مقابل” لما كان في السابق من حزب الله لا يدرك أن الحزب لم يفقد كل نقاط قوته وأن تراجعه حاليا لا يعني خسارته الحرب. وقال: “وبالتالي فإن الخطورة تكمن في محاولة البعض الإفادة من الظرف الحالي للاستقواء عليه، فيبقى البلد أسير الفعل وردة الفعل”.
إشارات لا يمكن تجاهلها
مع هذا يخطئ من يتجاهل أن تغيرا طرأ سريعا، وفي اليوم الأول بعد تأكد اغتيال نصر الله، على علاقة كل من بيروقراطية الدولة العليا وقوى سياسية طائفية في الحكم بحزب الله. وأيضا حتى بين حلفاء الحزب الأقدمين كالتيار الوطني الحر بقيادة جبران باسيل خليفة الرئيس السابق ميشال عون في قيادة التيار، فقد سارع إلى المطالبة بفصل وقف إطلاق النار في لبنان عن غزة، منتقدا قرار حزب الله إسناد غزة، وخياره “وحدة الساحات”.
ثمة إشارات مبكرة فور اغتيال نصر الله من قبيل تصريحات نجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال وعبد الله بوحبيب وزير خارجيتها، إثر الاتصالات المكثفة مع واشنطن وباريس، التي تركز على تطبيق القرار الدولي 1701 لسنة 2006 من جهة انسحاب رجال وسلاح مقاومة حزب الله إلى خلف نهر الليطاني، مع إغفال أو تهميش بنود ومشتملات القرار الأخرى فيما يتعلق بالتزامات إسرائيل.
والأكثر مدعاة للانتباه في خطاب أركان الحكومة اللبنانية، وما زال للحزب وزراء بها، هو تبني الأولويات الأمريكية بشأن انتخاب رئيس جديد للبنان وسط معمعة المعارك والآثار الإنسانية الكارثية لحرب الإبادة التي امتدت إليه بعد غزة.
وأظنه خيارا مجنونا يحمل شحنة بارود في صندوق أنيق ليُلقي بها داخل البيت اللبناني، في حين أن أهل البيت كلهم مستهدفون من خارجه بالنار والدمار وأطماع الاستتباع والإذلال والاحتلال. ومن شأن فتح هذا الصندوق الآن تصعيد الخلافات والمشاحنات على خلفية ملف مستعص في الأصل، حيث حال الاستقطاب السياسي الطائفي في زمن ما قبل الحرب دون انتخاب رئيس جديد منذ عامين.
وفي سياق مؤشرات أخرى بالشارع كقمع قوات وزارة الداخلية لمحاولات إسكان نازحين مشردين من الجنوب والضاحية الجنوبية في مبان مهجورة بمنطقة رأس بيروت، يمكن فهم الرسالة التي تضمنها البيان الصحفي لمسؤول العلاقات الإعلامية بحزب الله محمد عفيف الجمعة، وقبل يوم واحد من مؤتمر جعجع. وهذا حين اشتكى علنا وصراحة من ممارسات أطراف لبنانية سياسية وإعلامية، تعد بمثابة طعنات في الظهر لحساب العدو أثناء الحرب، تعرض المقاومة وكل لبنان لمزيد الخطر والمعاناة.
ولم يستثن عفيف من الشكوى والانتقاد أطرافا في الحكومة، وعلى نحو بدا لي كمراقب وكأنه “إعلان افتراق وطلاق” بين الحزب والسلطة، إلا قليلا. وهو بدوره تطور يفيد بأن الفناء الخلفي أو الجبهة الداخلية ليست على ما يرام تماما في ذروة الحرب.
أمور عن لبنان
لفهم اللحظة الخطرة
أعرف، نظرا للإسهام بكتابات في الأهرام عن لبنان منذ بداية صفحة “الحوار القومي” عام 1986 مع زيارات تعددت للبلد، أمورا قد تسهم في فهم اللحظة الخطرة الراهنة، ومن بينها أن:
ـ لبنان محل أطماع واعتداءات صهيونية إسرائيلية أمريكية قبل حزب الله، والأرجح بعده، وحتى لو اختفى من المشهد.
ـ يرتفع التصايح بالخلاف بين فرقاء الوطن، ثم يتراجع على حافة الهاوية، تجنبا لصدام عنيف مستدام ولتكرار مأساة الحرب الأهلية 75 ـ 1990. وعلى الرغم من غياب الحل العلماني واستمرار تسيد الطائفية السياسية العائلية وفساد رأسمالية المحاسيب “الزبونية”، فالغالب هو الوعي باستحالة وكارثية أن يُلغي أحد الآخر وأخطارها على الجميع.
ـ كان لبنان وما زال ساحة شديدة الحساسية للاستقطاب والصراع الإقليمي والدولي، الذي ينعكس على توازنات القوى بالداخل ومؤسسات السيادة بالبلد. والحنكة و”الشطارة” في توظيف مجمل العلاقات المتنوعة لصالح لبنان، كل لبنان، وهو ما تحقق في غير مناسبة من قبل، ودون شطط في الانحراف إلى “انعزالية لبنانية” مدعومة أمريكيا وفرنسيا وإسرائيليا أو “عروبية إسلاموية” لها بدورها من يدعمها إقليميا.
ـ عجزت تل أبيب وواشنطن عن جر البلد إلى اتفاق صلح وتطبيع، حتى في ظل غزوه واحتلال عاصمته. وربما تبقى صيغة “التفاهمات” مع إسرائيل عبر وسطاء ممكنة لوضع خاتمة لهذه الحرب أيضا، التي ما زالت مفتوحة، وإن كانت ستغير يقينا أمورًا في لبنان والمنطقة.
ـ لبنان يعود بسرعة إلى الإعمار وقوة إيمان اللبناني بالحياة رغم الدمار.
*
لكن هذا بعض ما يجري في الفناء الخلفي للحرب الجارية، وهو يستحق الاهتمام والانتباه واليقظة.